17‏/5‏/2013

أخوة الإسلام حب ومودة

أخوة الإسلام حبٌ ومودة
 
قال تعالى: (( ... لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما الفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم انه عزيز حكيم )) ([1]).
قال صفوان بن عسّال المُرادي t: (... كنا مع رسول الله e في سفر فبينما نحن عنده إذ ناداه أعرابي بصوتٍ له جَهْوَرِي: يا محمد! فأجابه رسول الله e على نحو من صوته هاؤم([2]) فقلنا له: أغضض من صوتك فإنك عند النبي e وقد نهيت عن هذا؟ فقال: والله لا أغْضُضْ، قال الأعرابي: المرءُ يحب القوم ولما يلحقُ بهم، فقال النبي e : المرءُ مع من أحب يوم القيامة)([3]).
مرضٌ أُصِبْنا به ما كان في آبائنا الأولين، وهو أن كثيراً من الناس فقد –في سلوكه- معنى الأخوة والحُب في الله، ففقد بذلك أكبرَ دَلالة من دَلالات عافية القلب، فقد (حلاوة الإيمان) التي لا يستطيع احدٌ أنْ يجدها إلا في الحُب في الله العلي الأعلى لقوله e : (مَن سرَه أن يجد حلاوة([4]) الإيمان فليحب المرء لا يحبه إلا لله)([5]).
قال سفيان الثوري (رحمه الله): (لا تحب إلا في الله، ولا تبغض إلا في الله، فإن لم تفعل كان سِيمَاك([6]) سِيمَا المنافقين). وهذا كلامٌ في غاية المتانة، عن البراء بن عازب t قال: (كنا جلوساً عند النبي e فقال: أيُ عُرى الإيمان أوثق؟ قالوا: الصلاة، قال: حسنة وما هي بها. قالوا: صيامُ رمضان! قال: حسن وما هو به قالوا: الجهاد، قال: حسن وما هو به، قال: إن أوثق عُرى الإيمان أن تُحِبَّ في الله وتُبغِضَ في الله)([7]).
من أجل هذه العُروة الوثقى قال عبدالله بن عمر (رضي الله عنهما): (والله لو صمتُ النهار لا أُفْطِرُه، وقمتُ الليل لا انامه وأنفقتُ مالي غلقاً([8]) في سبيل الله أموت يومَ أموت وليس في قلبي حبٌ لأهل طاعة الله، وبغضٌ لأهل معصيته ما نفعني ذلك شيئاً)([9]).
وقد يختلط الحبُ في الله، والحبُ لغيره، قال العلماء: (أن تحب المر لا طمعاً بماله، ولا بجاهه، ولا للأنس بحديثه ولا لتجلب نفعاً أو تدرأ ضراً، بل يكون الدافع الأول إلى حبه أنه امرؤٌ صالح) قيل لصفوان بن عَوانة: (لأي شيء يحب الرجل أخاه؟ قال: لأنه رآه يحسن خدمة ربه)([10]).
ما آثار هذه المحبة؟ تاريخ الهجرة النبوية يقول: (ما نزل مهاجري على أنصاريِّ إلا بقرعة) و (وعَرَضَ سعدُ بنُ الربيع [النقيب] t إحدى زوجاته على عبدالرحمن بن عوف t ليتزوجها).
قال محمد محمود الصواف (رحمه الله): (لما زرتُ سيراليون في أفريقيا هبتْ الجماهير يضعون أيديهم على جبهتي ويمسحون بها وجوههم، ولو صح أكْلُ إنسانٍ لأكلوني حُباً).
قال ابن القيم (رحمه الله): (للمحبة تأثيرٌ في انشراح الصدر وطيبِ النفس لا يعرفه إلا من له حِسٌ، وكلما كانت المحبة أقوى وأشد كان الصدرُ أفسَحَ وأشرحَ)([11]).
هذه آثار المحبة وما عداها كلامٌ لا وزن له في عالم القِيَم، وقد أعجبني ما حُكيَ: (أن رجلاً لقيَ صاحباً له فقال له: إني أحبك. فقال: كذبتَ، لو كنتَ صادقاً ما كان لفرسك بُرقع وليس لي عباءة)([12]).
كلامٌ جميل من آثار النبوة ذكرتهُ في سالف الأيام: (سَألَ موسى ربه، قال: ربِ! حدثني بأحبِ الخلقِ إليك، قال: ولمَ؟ قال: لأحبه لحبك إياه. قال: عبدٌ لي في أقصى الأرض أو طرف الأرض، سَمِعَ به عبدٌ آخر في أقصى الأرض أو طرف الأرض –لا يعرفه- فإن أصابته مصيبةٌ فكأنما أصابته وإن شاكته شوكة فكأنما شاكته، لا يحبه إلا لي، فذلك أحبُ خلقي إليَّ)([13]).
هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: (( والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون )) ([14]).
 
الخطبة الثانية
ذكر الدكتور كمال السامرائي (رحمه الله) في كتابه [حديث الثمانين] ما يأتي: (في أيام انسحاب الجيوش العثمانية –في الحرب العالمية الأولى- كنتُ واقفاً على عتبة دارنا –وأنا طفل- أحملُ كِسرة من الخبز ومَرَّ أمامي طابور من الجنود الأتراك المتعبين، فَخَرَجَ من بَينِهم جُندي وأقبل نحوي، وأخذ قطعةَ الخبز التي كانت بيدي، فهرولتُ خائفاً إلى داخل البيت وارتميتُ –وأنا أبكي- في حِضن أمي، وقصصتُ عليها ما حدث لي، فخرجتْ تستوضح الأمرَ وعادت إليَّ تقول: لا تخف يا بني! إن هؤلاء على ملة الإسلام ومَسحت بفوطتها دموعي وتناولتْ رغيفاً من الخبز ورَصَّتْ في وسطهِ تمراً وطلبتْ مني أنْ احمله إلى الجنود الذين يعبرون الطريق أمام بيتنا فامتنعتُ خوفاً منهم، فتركتني ويَمَّمت صوبَ الباب ولما رأيتها أبطأتْ تقدمتُ منها بوَجَل وحَذر، وشَدَّ ما أذهلني أمرُها أني وجدُتها –وأنا ألتصق بها- ترتجفُ وهي تبكي، ولم أرَ الجنديَ الذي نهبَ مني قطعة الخبز، بل رأيتُ جموعاً يسيرون بتراخ وبلا نظام على الطريق المُتربْ الذي يصلُ إلى باب الناصرية ورأيتُ على الجانب الآخر من الطريق جارتنا العجوز تقِفُ على عتبة دارها، وهي تبكي وتضرب صدرها، بجمع يدها وتلطِم خدَّها وتخدشه بأصابعها)([15]).
آخر الكلام: أعجبني دعاء لعبدِ الرحمن رأفت الباشا، ذكره في مُقدَّمة كتابه... وأنا أدعو به الآن: قال: 0اللهم إني أحببتُ الصفوة المختارة من ثِقاتِ التابعين حُباً لا يفوقه إلا حُبي لصحابة الرسول الكريم e صلواتُ ربي وسلامه عليه وعليهم أجمعين، اللهم فهبني يوم الفزع الأكبر لأيٍّ من هؤلاء أو هؤلاء، فإنك تعلم أني ما أحببتهم إلا فيكَ يا أكرم الأكرمين).
 


[1] [الأنفال: ٦٣].
[2] [بمعنى لبيك].
[3] [3535/ الترمذي].
[4] [في رواية طعم الإيمان].
[5] [3012/صحيح الترغيب والترهيب – 2300/ السلسة الصحيحة].
[6] [العلامة والهيئة والسمت].
[7] [3030/ صحيح الترغيب والترهيب].
[8] [أي كله].
[9] [ص140/ المستخلص/ سعيد حوى].
[10] [القائل: الوليد بن عتبة].
[11] [ص24/ جـ2/ زاد المعاد].
[12] [ص174/ المختار من تاريخ الجزري].
[13] [ص25/ سبيل النجاة/ يوسف النبهاني].
[14] [الحشر].
[15] [ص27/ جـ1/ حديث الثمانين].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق