9‏/6‏/2013

ظلم الناس لبعضهم


ظلم الناس لبعضهم

 

قال تعالى: (( وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما )) ([1]).

عن أبي سعيد الخدري t قال: (على السِعْرُ على عهد رسول الله e فقالوا: لو قوَّمْتَ لنا سِعرنا!!! فقال: إن الله هو المقوّم أو المسَعِّر، إني لأرجو أن أفارقكم، وليسَ أحد منكم يطلبني بمَظلمةٍ([2]) في مال ولا نفسٍ)([3]).

لما قرأت هذا الحديث، قلت لنفسي! سبحان الله! صاحبُ المقام المحمود والشفاعة العظمى يتذمَّم من فِعل أمر يسير – وهو إمام الأمة- أين أصحاب الضمائر الحية الذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب؟؟؟

ما أعلم بلداً – في العالم كله- تهاون أبناؤه في قضايا ظُلم بعضهم بعضاً كهذا البلد، في أي نوع من أنواع الظلم نتكلم؟ أفي استحلال بعضهم دماءَ بعض؟ أم في أكل أموال غيرهم بغير حق؟ أم في الرشاوى والغش في المعاملات،

أم في قهر المستضعفين في السجون، أم في مظالم الزواج والطلاق والأولاد، أم في الدراسة والتدريس ومنح الشهادات؟

بدا لي اليوم أنَّ بعض الناس قد ماتت ضمائرهم لكثرة ما داسوها بموبقاتهم، تذكرتُ كلام الإمام القرطبي (رحمه الله) في تفسير آية النمل: (( حتى اذا اتوا على وادي النمل قالت نملة يايها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده ووهم لا يشعرون ))([4])، (قال القرطبي: أي من عَدْل سليمان وفضل جنده لا يَحطمون نملة فما فوقها إلا بألا يشعروا)([5]).

أعجبني جداً مثلٌ كردي مضمونه: (كلُّ حبل ينقطع إذا دَقَّ([6])  لكنَّ حبلَ الظلم ينقطع من غلظته). قال ابن الجوزي (رحمه الله): (من تأمل أفعال العباد رآها على قانون العدل، وشاهدَ الجزاء مُرْصداً ولو بعد حين...)([7]).

 

موازين القدر على البشر، كموازين الكون على الشمس والقمر، كلها تحت علم الله وسمعه وبصره لا تخفى عليه منها خافية، ومن يسكت عنه الله في ساعة من ليل أو نهار – وهو يلبس ثياب الظلم- فإن وراء ذلك ساعة البيات([8]) وأخذ الله أليم شديد.

حدثني أحد الأخوة قال: (في أيام الحرب العراقية الإيرانية أتهم أحدُ القواد عدداً من ضباط الارتباط – بلا دليل- فأمر بإعدامهم فوراً وهم يستغيثون ويدعون الله عليه، ولا من مجيب، قال: وفي اليوم نفسه عقد هذا القائد اجتماعاً مع ضباط ركنه فجاءت قنبلة وسقطت في حِضن القائد وحده من بين جميع ضباط ركنه فأصبح خبراً بعد حين).

(وقام أحد آمري الألوية بإعدام عدد من ضباط اللواء لتخاذلهم -على زعمه- أحدهم فلسطيني، يقول له: إن قيادتنا تأخرت في إرسالنا وأنا صاحب أطفال وزوجة خارج العراق، فبدأ به، وإذا بأمر من القيادة العامة يأمر بإعدام هذا الآمر لفشله في القيادة، قال: لقد قرأت بنفسي الرسالة التي أرسلها للقيادة العامة ومضمونها نفسُ ما جاء في رسالة القيادة العامة).

قال خالد بن حكيم بن حزام t : تناول أبو عبيدة t رجلاً من أهل الأرض بشيء([9])، فكلمه خالد بن الوليد t فقيل له: أغْضَبْتَ الأمير! فقال خالد: إني لم أردْ أنْ أغضبه، ولكن سمعت رسول الله e يقول: (إن أشدَّ الناس عذاباً عند الله يومَ القيامة أشدهم عذاباً للناس في الدنيا)([10]).

قال التاريخ: (كان القاضي عبدالله بن الحسين (رحمه الله) رجلاً صالحاً مُتوَدِّدَاً محمود الأمر مشكوراً في قضاياه عَجزَ في آخر عمره عن النهوض والحركة، فجاءه شخص بعد العِشائين([11]) وقال له: لي غريم([12]) في الحبس وقد أفرجتُ عنه، فقال: أدعُ لي أحَدَ الغِلمة([13]) يَمْض إلى الحبس ويطلقه الساعة، فقال: ما أرى أحداً من الغلمان فتوكأ على يديه ومضى إلى الحبس وأطلقه وعاد إلى منزله وقال: أما كان الله يطالبني بحبس هذا الرجل هذه الليلة، من لم يكن له ضمير حيَّ خاضع – ليل نهار- لرقابة الله (جل وعلا) فسوء العواقب أمامه بالمرصاد لا محالة).

 

لما قامت رابعة خاتون الجليلي (رحمها الله رحمة واسعة) ببناء جامِعها (جامع الرابعية) في الموصل علمت أن المُشرف على البناء أقصى([14]) أحدَ العمال عن العمل، ولما عملت أنه كان مظلوماً ما كان منها إلا أن استدْعَتْ ذلك العامل وأرضته وأعادته إلى العمل وأمرت بهدم ما بُنيَ من بنيان الجامع في ذلك اليوم)([15]).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( سنفرغ لكم أيه الثقلان )) ([16]).

 

الخطبة الثانية

ومن المروءة  بعد الذي قدمنا، نصرة المظلومين والتخفيف من معاناتهم بكل ما هو ممكن، حكى جواد المرابط – محافظ دمشق عام 1948م: (أيام النكبة في فلسطين فتحت المدارس والمساجد لإيواء اللاجئين، وسارت الأمور على ما يمكن أن تسير عليه، جاءني بعدها مختار قرية [عربين] فقال: كنا نظن أن قضية اللاجئين قضية أسبوعين أو عشرين يوماً –وهنيئاً لهم بما أخذوه من مؤونة دورنا-

ولكنَّ المدة تجاوزت ثلاثة أشهر، فأجبته بقولي: هل تعرف ما فعله الأنصار مع المهاجرين؟ فكان جوابُه بمنتهى الطيبة قال: إنه لشرف عظيم أن تكون للمسلم فرصة يُصْبحُ فيها بمنزلة الأنصار، سمعاً وطاعة)([17]).

من كلام نبينا e : (الظلم ثلاثة، فظلم يتركهُ الله وظلم يُغفر، وظلم لا يُغفر، فأما الظلم الذي لا يُغفر فالشرك لا يغفره الله، وأما الظلم الذي يُغفر فظلم العبد فيما بينه وبين ربه، وأما الظلم الذي لا يُترك فظلم العباد فيقتصُّ الله بعضهم من بعض)([18]).

ومن كلامه e: (يحشُر الله العباد –أو الناسَ- عراة غرلاً بُهماً، قلنا: ما بُهماً؟ قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه مَنْ بَعُدَ (أحسبُ قال: كما يسمعه من قرُبَ) أنا الملك لا ينبغي لأحد من أهل الجنة يدخلُ الجنةَ وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة، قلتُ([19]): وكيف؟ وإنما نأتي الله عراةً بُهماً؟ قال: بالحسنات والسيئات)([20])



[1] [طه:111].
[2] [ما تطلبه من عند الظالم مما أخذه منك].
[3] [11809/ أحمد – 2480/ صحيح الجامع/ الطيالسي].
[4] [النمل:18].
[5] [تفسير القرطبي].
[6] [ضد غلظ].
[7] [ص24// صيد الخاطر].
[8] [الهجوم ليلاً].
[9] [أي عاقبه].
[10] [1442/ جـ3/ السلسلة الصحيحة].
[11] [العتمة والمغرب].
[12] [أي: مَدين].
[13] [جمع غلام والمراد هنا العبد والأجير].
[14] [أي: أبعده عن العمل واستغنى عنه].
[15] [ص65/ البصائر/ ميسر بشير المحامي].
[16] [الرحمن:31].
[17] [ص60/ عبر وعظات/ جواد المرابط].
[18] [1056/ السلسلة الصحيحة].
[19] [الكلام لجابر بن عبدالله راوي الحدي].
[20] [746/ صحيح الأدب المفرد].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق