التواصي بالمرحمة
قال عبد الله بن جعفر t : (أردفني رسول الله e خلفه ذات يوم فأسَرَّ إليَّ حديثاً لا أحدِّث
به أحداً من الناس، وكانَ أحبَّ ما استتر به رسول الله e لحاجته هدفٌ([3]) أو حائشُ نخل([4])، فدخل حائطاً لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبي e
حنَّ وذرَفتْ عيناه فأتاه النبي e فمسح سَراته([5]) إلى سنامه وذِفراه([6]) فسكن، فقال: من ربُّ هذا الجمل؟ فجاء فتىً من الأنصار فقالي: لي يا
رسول الله، فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنه شكا
إليَّ أنك تُجيعه وتُدْئِبُهُ([7]))([8]).
أقول: إذا كان نبينا e قد تواصى بالمرحمة مع هذه البهيمة العجماء فما
بالك بالإنسان الذي كرمه الله عز وجل؟.
في حياتنا عشراتُ المواقف الإنسانية لا تحتاج –أحياناً- إلا إلى
التواصي بالمرحمة.
حكى لي أحد الأخوة: (أن طفلة تسكن في محافظة دهوك ضعيفة الحال مريضة
القلب، أجلتْ عمليتُها عدة مرات، فكَلمتُ أحدَ الإخوة الأطباء هناك، قلتُ له : أنا
أحبك، وأفتح لك بابَ خير –وذكرتُ له قصة الطفلة- فشفع لها شاكراً وقام الطبيب
المختص بما يلزم لها في المستشفى وعلى حساب المستشفى فكان هذا موفقاً إنسانياً لا
ينسى).
حكى أحدهم قال: (زوجني أبي بفتاة لا تعرف إلا المطبخ والغسالة
والمِكنسة، وقد حاولتُ أن أصنع منها زوجة عصرية لتستطيع إرضائي كشاب عصري فلم أفلح
وكلما أردتُ طلاقها وقعت على يَدَيَّ تقبلها وليس لدي مال لأتزوج بأخرى، ولي أربع
بنات وولدان، كان هذا الكلام رسالة وجهها هذا الشاب لأحد المفتين، فأجابه المفتي
بما يأتي قال: (أرجو أن يتسع صدرك لكي أصِفَكَ بأنك متجردٌ من الشهامة والرجولة،
أنت لستَ أهلاً لتلك الزوجة العفيفة الطاهرة، ولو ابتلاك الله بامرأةٍ لا تعرف إلا
صالونات التجميل لعلمت قدر نِعمة الله عليك حين رزقك تلك الزوجة الصالحة، لإنك
تجحد نعمة الله عليك إذ لك ستة أولاد فماذا ترجو وأنت قليل المال، ولو كنت غنياً
لنصحتك بالزواج لتعرف نعمة الله عليك في الأولى حين تبتلى بالثانية، حينئذ ستُقبّلْ
يد الأولى معتذراً إليها عن وصفك لها بالجهل)([9]).
جاء أبو أسيد t بسبي من البحرين إلى النبي e
فنظر النبي e
إلى امرأةٍ منهن تبكي، فقال: ما شأنك؟ قالت: باع ابني، فقال النبي e
لأبي أسيد: أبِعتَ ابنها؟ قال: نعم، قال: فيمن؟ قال: في بني عبس، فقال النبي e:
أركب أنتَ بنفسك فأتِ به)([10]).
قال حسين الشريف: (كنا مدعوين إلى تناول طعام الإفطار على مائدة
السلطان (حسين كامل) فلما سمعنا دَويَّ المِدفع رأينا السلطان غادر مكانه فجأةً فسِرْتُ
وراءه لاستطلع الخبر، فالتفت إلينا –ومعنا ناظر السراي- وقال: أنتم ناس ليس في
قلوبكم رحمة وعواطفكم ليس فيها إنسانية هؤلاء سُوّاق السيارات، أسيادهم يأكلون
والمساكين قاعدين في سياراتهم، أليسوا بشراً مثلنا، إمّا أن تدعوهم يذهبوا إلى
بيوتهم ليفطروا فيها ويرجعوا إليكم أو انصبوا لهم سفرة وفطروهم عندكم).
هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( محمد رسول الله
والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ... ))([11]).
الخطبة الثانية
قال أبو سعيد الثعلبي
(رحمه
الله): (لما خرج إبراهيم ومحمد على أبي جعفر المنصور أراد([12]) أهلَ الثغور أن
يعينوه عليهما فأبَوا ذلك فوقع في يد ملك الروم الألوف من المسلمين أسرى وكان ملك
الروم يحب أن يفادي بهم ويأبى أبو جعفر فكتب الإمام الأوزاعي إليه كتاباً جاء فيه:
(أما بعد فإن الله تعالى استرعاك أمر هذه الأمة لتكون فيها بالقسط قائماً وبنبيه
في خفض الجناح والرأفة متشبهاً وأسأل الله تعالى أن يُسكن على أمير المؤمنين دَهْماءَ
هذه الأمة ويرزقه رحمتها، فإن سائحة المشركين موطؤهم حريمُ المسلمين واستنِزالهم
العواتق والذراري من المعاقل والحصون- وكان ذلك بذنوب العباد- وما عفا الله عنه
أكثر فبذنوب العباد استنزلت العواتق لا يلقون لهم ناصراً كاشفاتٍ عن رؤوسهنّ
وأقدامهنّ وليتقٍ الله أمير المؤمنين وليتبع بالمفاداة بهم سبيلاً، وليخرُج من حُجة
الله عليه فإن الله قال لنبيه: (( وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من
الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل
لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ))[13]
وقد بلغني عن رسول
الله e
أنه قال: (إني لأدخلُ في الصلاة وأن أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأتجوزُ([14]) في صلاتي، مما أعلم من شدة وَجْدِ أمه عليه)([15]). فكيف بتخليتهم في
أيدي عدوهم يمتهنهم ويكشفون منهم ما لا نستحله نحن إلا بنكاح، وأنتَ راعي الله،
والله تعالى فوقك ومسْتوفٍ منك يوم القيمة (( ونضع الموازين القسط فلا تظلم نفس
شيئا وان كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ))([16])
فلما
وصل كتابُه أمر بالفداء)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق