التكاثر والتفاخر
والمباهاة
قال تعالى : (( واعلموا
إنما الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب
الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من
الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور )) ([1]).
تباهى سلف هذه الأمة بطيب أصولهم وكرامة أعمالهم، وكثير من الناس
اليوم، يتباهون ويتفاخرون بزخرف الحياة الدنيا، بأموالهم وأولادهم ومساكنهم
ومراكبهم ومناصبهم وما يأكلون ويشربون فشتان بين الفريقين!
قال هاشم بن القاسم (رحمه الله): (كنتُ
بحضرة المهدي([3]) عشية من العشايا، فلما كادت الشمسُ أن تغرُبَ وثبْتُ لأنصرف –وذلك في
شهر رمضان- فقال لي: اجلس فجلستُ، ثم إن الشمس غابت وأذنَ المؤذن لصلاة المغرب
وأقام فتقدم المهدي وصلى بنا ثم دعا بالطعام فأحْضِرَ طبق [خلافٌ]([4]) وعليه رُغفٌ([5]) من الخبز النقي وفيه آنية في بعضها ملح وفي بعضها خل وفي بعضها زيت،
فدعاني إلى الأكل فابتدأتُ آكل مُعذِراً ظاناً أنه سَيُؤتى بطعام له، فنظر إليَّ
وقال: ألم تكن صائماً؟ قلتُ: بلى، قال: أفَلستَ عازماً على صوم غدٍ؟ فقلتُ: كيف لا
وهو صيام رمضان؟ فقال: كل واستوفِ غداك فليسَ هاهنا من الطعام غيرُ ما ترى،
فعجِبتُ من قوله وقلتُ: ولمَ يا أمير المؤمنين، وقد أسبغ الله نعمته عليك؟ فقال:
إن الأمر لعلى ما وصفتَ والحمد لله، ولكني فكرتُ في أنه كان في بني أمية (عمر بن
عبد العزيز رحمه الله) وكان من التقلل من زخرف الحياة، على ما بلغك فغِرتُ على بني
هاشم أن لا يكون في خلفائهم مثله فأخذت نفسي بما رأيت)([6]).
ويوم بدر إذ يَردُ وجوهَهم
والنسب الأصيل لا يُفتخرُ به إلا مع العمل الصالح، عن أبيّ بن كعب t
قال: إنتسب رجلان على عهد رسول الله e فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان فمن أنتَ لا
أمَّ لك؟ فقال رسول الله e : (إنتسب رجلان على عهد موسى u
فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان حتى عدَّ تِسْعَة، فمن أنتَ لا أمَّ لك؟ قال: أنا
فلان بن الإسلام، قال: فأوحى الله إلى موسى u أن قُل لهذين المنتسبين: أما أنتَ أيها المنتمي
أو المنتسب إلى تسعةٍ في النار، فأنت عاشِرهم، وأما أنت يا هذا المنتسب إلى اثنين
في الجنة، فأنتَ ثالثُهما في الجنة)([9]).
والنسب الأصيل لا يُفتخرُ به ولا يُتباهى فيه إذا كانت أصوله جاهلية،
عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أن النبي e قال: (لا تفتخروا بآبائكم في الجاهلية، فوالذي
نفسُ محمد بيده لما يُدَهدِه الجُعْلُ([10]) بمنخريه، خيرٌ من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية)([11]).
المال والبنون ومقامات الحياة والمناصب زينة وليست قيمة –هكذا قال
المفسرون- قال عز وجل: (( وإذا تتلى عليهم آياتنا بيّنات قال الذين كفروا للذين
امنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ))([12]) ومثل ذلك: قال
تعالى: (( ... أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون ))([13]). ومثل ذلك: قال
تعالى: (( ...لولا انزل عليه كنز ...)) ([14]).
قال أبو ثور الفهمي:
(قدمتُ على عثمان t
فبينما أنا عنده قال: لقد اختبأتُ عند ربي عشراً، إني لرابعُ أربعة في الإسلام،
ولقد ائتمنني رسول الله e على ابنته ثم توفيت فزوجني الأخرى، والله ما
سرقتُ ولا زنيتُ في جاهلية ولا إسلام، ولا مسستُ فرجي بيميني منذ بايعتُ رسول الله
e
ولا مَرّت بي جمعة منذ أسلمتُ إلا وأنا أعتِقُ فيها رقبة، إلا أن لا أجد فأعتق بعد
ذلك ولا كذبتُ في جاهلية ولا إسلام قط)([15]).
هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( وما أموالكم ولا أولادكم
بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من امن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا
وهم في الغرفات آمنون )) ([16]).
الخطبة الثانية
لو رجعَ الناس اليوم –بعض
الشيء- إلى ما كان عليه آباؤهم وأصولهم لما افتخروا بما هو اليوم عليهم مَعَرَةٌ، أيُفتَخَرُ
ببناء بُني من مال حرام، أم يُفتخر بطعام طبع بطابع المسرفين؟
قال أبو يعقوب اسحق
الكرامي في إحدى مواعظه: (ألا تدخلون مدينة رسول الله e
فتسألون عن قصوره وبساتينه ثم تسألون عن منازل ابنته فاطمة (رضي الله عنها) وعن حُليها
وجواهرها، ثم تسألون عن قصور أصحاب راياته والخلفاءِ من بعده؟ ثم قال: والله لو
فعلتم لم تجدوا منها شيئاً ولعلمتم أنكم على ضلال)([17]).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق