3‏/6‏/2013

الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة


الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة

 

قال تعالى: (( ومن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ...)) ([1]).

من كلام نبينا e : (اشفعوا تؤجروا، فإني لأريد الأمر فأؤَخره كيما تشفعوا فتؤجروا)([2]).

استحبَّ الإسلام بذل الشفاعات، واعتبرها الناس زكاة الجاه، وحثت شريعة الله عليها ما دام فيها إنصافاً لمظلوم، أو حقاً لمعدوم، أو إصلاحاً في وجوه الخير معلوم، وكره الشفاعات السيئة التي تعين على الظلم والفساد، وهدر الحقوق، وتعطيل الحدود.

قال عبدالله بن عمرو t : (شهدتُ رسول الله وجاءته وفود هوازن فقالوا: يا محمد! إن أهلٌ وعشيرة فمُنَّ علينا منَّ الله عليك... وقام رجل فقال: يا رسول الله إنما في الحضائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كنَّ يَكفلنك، ولو أنا مَلحْنا([3]) للحارث بن أبي شِمْر أو للنعمان بن المنذر... لرجونا عطفه وعائدته علينا وأنت خير المكفولين([4]) فقال: اختاروا بين نسائكم وأموالكم وأولادكم، قالوا: خيّرتنا بين أحسابنا وأموالنا نختار أبنائنا، قال: فإذا صليتُ الظهر فقولوا: إنا نستشفع برسول الله e في نسائنا وأبنائنا، قال: ففعلوا، فقال رسول الله e: أما ما كان لي ولنبي عبدالمطلب فهو لكم وقال المهاجرون: ما كان لنا فهو لرسول الله e وقالت الأنصار مثل ذلك فقال رسول الله e: يا أيها الناس ردّوا عليهم نساءهم وأبناءهم)([5]).

(كان الخليفة المنصور معجباً بمحادثة (محمد بن جعفر) ولعظم قدْره يفزع الناس إليه في الشفاعات فثقل ذلك على المنصور فحجبه مُدَّة ثم لم يصبر عنه، فأمَر الربيعَ - حاجبَه- أن يكلمه، فكلمه وقال: اعفِ أميرَ المؤمنين ولا تثقل عليه في الشفاعات، فلما توجه إلى الباب اعترضه قوم من قريش معهم رقاع فسألوه إيصالها إلى المنصور فقصَّ عليهم فأبوا، فقال: اقذِفوها في كمّي، ثم دخل عليه –وهو مشرف على بغداد وما حولها من البساتين- فلما نهض ليقومَ بَدَتْ الرقاع من كمه، فجعل يردُّها ويقول: ارجعن خائبات خاسرات، فضحك المنصور وقال: بالله عليك إلا أخبرتني بهذه الرقاع، فأعلمه فقال: (ما أتيتَ يا ابنَ معلم الخير إلا كريماً) ثم تصفح الرقاع وقضى حوائج أصحابها)([6]).

ذكر تاريخ الأندلس: (أن بعض أصحاب الأمير الحكم بن هشام قام بتسَوّر جدار رجل اتهموه بالحركة، فصاح نساؤُه فسمع القاضي فرج بن كنانة –وكان جارَه- الصراخَ فقال: ما هذا؟ قِيل جارك فلان تعلق به الحرس فأخرجوه ليقتل، فبادَرَ الخروجَ وكف القوم عن جاره وقال لهم: إن جاري هذا بريء الساحة سليمُ الناحية، وليس فيه شيء مما تظنون، فقال له رئيس الحرس: ليس هذا من شأنك فعليك النظرُ في أحباسك وحكومتك،ودع ما لا يعنيك، فغضب القاضي ومشى إلى الأمير الحكم فأستأذن عليه، فلما دخل قال له بعد السلام: إن قريشاً حاربتْ رسولَ الله e وناصبته العداء في الله تعالى، ثم إنه صَفحَ عنهم لمّا أظفرهُ الله تعالى بهم وأحسن إليهم، وأنت أحق الناس بالاقتداء به لقرابتك منه ومكانك من خلافته في عباد الله! ثم حكى له قصة جاره، فأمر بتخلية سبيله وبعقاب الذي عارض القاضي، وعفى عند ذلك عن بقية أهل قرطبة وبسط الأمان لجماعتهم وردهم إلى أوطانهم)([7]).هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: (( ومن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ...)) ([8]).

 

الخطبة الثانية

حَدَّث طلحة بن عبيد الله بنُ قناش قال: (كنتُ يوماً في مجلس حديث بحضرة سيف الدولة الحمداني، أنا وجماعة من ندمائه فأدخل عليه رجل وخاطبه ثم أمر بقتله فقتل في الحال، فالتفتَ إلينا وقال: ما هذا الأدب السيئ؟ ما هذه المعاشرة القبيحةُ التي نعاشرُ ونُجالسُ بها؟ كأنكم ما رأيتم الناس ولا سمعتم أخبار الملوك، ولا تأدبتم بأدبِ دينٍ ولا مروءةٍ، قال: فتوهمنا أنه قد شاهد من بعضنا حالاً يوجب هذا، فقلنا: كل الأدب إنما يستفاد من مولانا –أطال الله بقاءه- وما علِمنا أنا عمِلنا ما يوجب هذا، فإذا رأى أن يُنعِم بتنبيهنا فعل، فقال: أما رأيتموني وقد أمرتُ بقتِل رجل مسلم لا يجب عليه القتلُ، وإنما حملتني السطوة والسياسة لهذه الدنيا النكدة على الأمر به طمعاً في أن يكون فيكم رجل رشيد فيسألني – الشفاعة له- والعفوَ عنه، فأعفو وتقوم الهيبة عنده وعند غيره فأمسكتم حتى أريق دم الرجل وذهب هدراً، قال: فأخذنا نعتذر إليه وقلنا لم نتجاسر على ذلك، فقال: ولا في الدِماء؟ ليس هذا بعذر، فقلنا: لا نعاود،واعتذرنا حتى أمسك).

قال مسعود بن الأسود t: (لما سَرَقت المرأة تلك القطيفة من بين رسول الله e أعظمنا ذلك –وكانت امرأة من قريش- فجئنا إلى النبي e نكلمه وقلنا: نحن نفديها بأربعين أوقية، فقال رسول الله e : تطهُر خيرٌ لها، فلما سمِعنا رسول الله e أتينا أسامة t فقلنا: كلم رسولَ الله e ، فلما رأى رسول الله e ذلك قام خطيباً فقال: ما إكثاركم عليَّ في حدٍ من حدود الله (عز وجل) وقعَ على أمة من إماء الله، والذي نفس محمد بيده لو كانت فاطمة بنت رسول الله e نزلت بالذي نزلت به لقطع محمد يدها)([9]).



[1] [النساء: ٨٥].
[2] [1464/ السلسلة الصحيحة].
[3] [متتنا بحرمة ومعاهدة، والملحة: الحرمة].
[4] [4/352/ البداية والنهاية].
[5] [1722/ السلسلة الصحيحة].
[6] [ص67/ جـ3/ قصص العرب].
[7] [ص53/ تاريخ قضاة الأندلس/ عبدالله الأندلسي المالقي].
[8] [النساء: ٨٥].
[9] [ص9.6/ جـ2/ مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة/ شهبا الدين الكنائي].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق