2‏/6‏/2013

القصاص في حياة الأمة


القصاص في حياة الأمة

قال تعالى: (( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون )) ([1]).

(إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعم الله بعقاب منه)([2]).

روى علي طنطاوي (رحمه الله) قال: (سمعتُ –وأنا في مكة- أن أمراً سيقع بعد صلاة الجمعة آخرَ المحرم سنة 1354هـ([3]) حتى إذا قضِيتْ الصلاة جعلتُ أزاحم الناس، وإذا أنا بالشيخ يوسف ياسين –سكرتير الملك- فتعلقتُ به وقلتُ له: والله لا أدعُكَ حتى تبلغَ بي إلى الساحة –ساحة الإعدام- قال: فجيء برجل قصير كزٍّ([4]) ساهِمٍ يقوده جندي حتى إذا بلغ الساحة خلاه فهوى جاثياً على ركبتيه تدور عيناه في الناس من الجزع –حين يئس من الحياة- وجعل يُحرك شفتيه باستغفار ويشير بالسبابة إشارة التوحيد ثم أغمضَ عينيه في ذهول، وجيء بعبدٍ أسود ضَخم الجثة يُمْسِك به ستة من الجنود –وهو يصاولهم ويقاومهم ويصرخ صراخاً شديداً- فأضجعوه على سرير من الخشب،وشدوه شداً وثيقاً فأدركه الخوف فسَكتَ، فأشار الأمير بيده فبرز عبد ضخم من بين الصفوف –وبيده سيف- فهوى به على قذاله([5]) فطاح رأسه ثلاثة أمتار ونفر الدم من عروقه كأنه نافورة فهويتُ([6]) –وكفاني على عيني- ولم أشعر بشيء، ولما صحوتُ قيل: قد فاتك المشهد الهائل، قطِعَتْ يد العبد ورجله من خلاف، قلت: ويحكم، ماذا تقولون! قالوا: ألم تتلُ قول الله عز وجل: (( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ... ))([7]). أما إنكم لولا هذا ما بلغتم أرض الحجاز سالمين، قلتُ: صدق الله العظيم:  (( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون )) ([8]).

قديماً قالوا: لولا السيف لكثر الحَيف.

رَفع شيخٌ بغدادي شكوى إلى الملك فيصل الأول جاء فيها: (... أنَّ له أولاداً ثلاثة، وأن شخصاً تنازع مع أحد أولاده وقتله، وحُكِمَ عليه بالإعدام وخُفضَ إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، وأنَّ القاتل أطلِق بعد تِسع سنين فقتلَ ولده الثاني، وحكم عليه بالإعدام، وخفِفَ الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، وهو في شكواه هذه لا يحتجُّ على تخفيف الحكم، وإنما يريد من الملك أن يُحْييَ له ولدَه الثالث، إذ لم يبقَ له غيره، وكان لهذه الشكوى أبلغَ الأثر فأمر الملك بإعدام من اكتسب الحكم القطعيَّ فأعدم في يوم واحد تسعةُ أشخاص شنقاً علناً)([9](.

إن من واجب الحكومة ومن مصلحتها ومن دواعي ثباتها حفظ الأمن العام الذي تقوم عليه سعادة الأمة.

كان أحد ملوك دارفور([10]) من أعدل السلاطين وأشدهم محافظة على الكتاب والسنة، إذ بعد توليه المُلك بثلاثة أيام خرج إلى مجلس خاصته وسألهم أن يُولوا أحد أعمامه في مكانه لأن مسؤولية المُلك ثقيلة فرفضوا ذلك وأبَوا إلا أن يكون هو السلطان فقال إذن!!! انتظروني أسبوعاً فأخبركم بما أريد، فانتظروه فخرج بعد أسبوع، فقال: أريد أن يَعُمَّ الأمن ويبطلَ التعدي حتى تسلم ماشية أضعفِ النساء، ثم التفت إلى الحكام وقال: أريد أن تعدلوا في الرعية لكيلا يجيء أحد منهم بشكوى –فلم يمض إلا قليلاً حتى جاءته الشكوى على 30 عاملاً فأحضرهم إليه- ولما تحقق ظلمهم أمر أن يُذبحوا عند باب داره 15 عند باب الحريم و 15 عند باب الرجال فوقعت الرهبة في قلوب الجميع وانقطع الظلم، وقد بارك الله في البلاد حتى أتأمت([11]) الإبل والبقر والحمير وغَزَرَت الينابيع([12]) وجرَت الأنهار فلقِبَّ بـ (سَرَف) أي الماء الجاري)([13]).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون )) ([14]).

 

الخطبة الثانية

لا شيء أعظم من حرمة الدماء أياً كانت ما دامت عراقية، فكيف إذا كانت دماءَ علماء الأمة الأطهار، عن عبدالله بن عمرو t قال: (رأيتُ رسول الله e يطوف بالكعبة ويقول: ما أطيب؟ وما أطيب ريحك؟ وما أعظمك؟ وما أعظم حُرمتِك؟ والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم حرمة منك، مالهُ ودمُه [وأن نظُنَّ به إلا خيراً])([15]).

ومن كلام نبينا e : (قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)([16]).

كتب رجل إلى ابن عمر (رضي الله عنهما): (أن اكتب إليَّ بالعلم كله، فكتب إليه: إن العلم كثير ولكنْ! إن استعطت أن تلقى الله خفيفَ الظهر من دماء الناس، خميصَ البطن من أموالهم، كافَّ اللسان عن أعراضهم، لازماً لأمر جماعتهم فأفعل)([17]).

قال علي عليه السلام يوصي ابنه الحسن t: (إياك والدماءَ وسَفكها بغير حِلها فإنه ليس شيء أدعى لنقمةٍ ولا أعظمَ تبعة ولا أحرى بزوالِ نعمةٍ وانقطاع مدةٍ من سفك الدماء بغير حقها)([18]). و (ما أحببتُ منذ علمتُ ما ينفعني ويضُرني أن ألِيَ أمة محمد e على أن يهراق في ذلك محجمُ دم)([19]). 

  



[1] [البقرة:179].
[2] [2168/ صحيح الترمذي - والجامع/ 19609].
[3] [قبل 79 سنة].
[4] [المنقبض/ اليابس].
[5] [ما بين الأذنين من مؤخر الرأس].
[6] [سقطت].
[7] [المائدة: ٣٣ٍ].
[8] [البقرة:179].
[9] [كان ذلك عام 1931 – 1932م].
[10] [هو السلطان (عمر بن محمد الثاني) سلطان دارفور من 1170 – 1177هـ - 1757 – 1764م].
[11] [صارت تأتي بالتوائم].
[12] [أي: كثر ماؤها].
[13] [ص273/ تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان/ محمد بن عمر التونسي].
[14] [المائدة:50].
[15] [2441/ صحيح الترغيب - والزيادة لابن ماجة].
[16] [3325/ جـ3/ صحيح سنن النسائي].
[17] [ص148/ جـ3/ سير أعلام النبلاء].
[18] [ص256/ جـ2/ جمهرة وصايا العرب].
[19] [ص122/ تاريخ اليمن الفكري/ أحمد الشامي].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق