الأنانية
عن المغيرة بن سعد عن أبيه قال: (أتيت النبي e بغرقد فأخذتُ بزمام ناقته أو بخطامها، فدفِعْتُ
عنه فقال: دعوه مأرَبٌ([2]) ما جاء به، فقلت: نبِّئني بعمل يقربني إلى الجنة ويُبعدني من النار،
قال: فرفع رأسه إلى السماء ثم قال: لئن كنتَ أوجَزتَ الخُطبة، لقد أعظمْتَ أو أطولتَ، تعبُد الله لا تشرك به شيئاً،
وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتحجُّ البيت وتصومُ رمضان وتأتي إلى الناس ما تحب أن
يأتوه إليك، وما كرهت لنفسك فدع الناس منه... خلِّ عن زمام الناقة)([3]).
الأنانية مرض وبيل برئ منه سلفُ هذه الأمة، وظهر فينا بصورة فاحشة،
والناجي منه قليل، قال سعيد النورسي (رحمه الله):
(لو تأملتَ مساوئَ جَمعية البشر، لرأيتَ أسَّ أساس جميع اختلاطاتها وفسادِها،
ومَنْبَعَ كلِّ الأخلاق الرذيلة في الهيئة الاجتماعية كلمتين فقط:
إحداهما: إن
شبعتُ فلا عليَّ أن يموت غيري من الجوع، والثانية: اكتسبْ أنتَ لآكلَ أنا،
واتعبْ أنتَ لأستريحَ أنا)([4]).
قال عبدالله بن عمرو (رضي
الله عنهما): (كنا مع رسول
الله e
في سفر فنزلنا منزلاً، فمِنّا من يُصلحُ خباءَه([5]) ومِنّا من يَنْتضِلُ([6])، ومِنا من هو في جَشَره([7])، إذ نادى منادِي رسول الله e الصلاة جامعة!!! فاجتمعنا إلى رسول الله e
فقال: إنه لم يكن نبيٌّ قبلي إلا كان حقاً عليه أن يَدُلَّ أمته على خير ما يعلمه
لهم، ويُنذرَهم شَرَّ ما يعلمُه لهم، وإن أمتكم هذه جُعِل عافيتها في أولِها،
وسَيصيبُ آخرَها بلاءٌ وأمورٌ تنكِرونها، وتجيءُ فِتنٌ يٌرَققُ بعضُها بعضاً([8])، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن، هذه مُهلِكتي، ثم تنكِشفُ وتجيءُ الفتنة فيقول المؤمن هذه هذه، فمن أحبَ أن يُزحزح
عن النار ويُدخلَ الجنة فلتأتِهِ مَنيّتهُ وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ
إلى الناس الذي يُحِبُّ أن يؤتى إليه...)([9]).
لأهمية هذا الخلق العظيم، قال ابن عباس (رضي الله عنهما):
لرجلٍ سَبّه في الحرم: (أتسُبني وفي ثلاث خصال، قال: وما هي؟ قال: والله ما نزل
المطر بأرضٍ إلا سُررتُ بذلك وحمِدتُ الله على ذلك وليس لي ناقة ولا شاة، ولا
سمِعتُ بقاضٍ عادل إلا دعوتُ الله له بظهر الغيب وليس لي عنده قضية، ولا فهِمتُ
آية من كتاب الله (جل وعلا) إلا تمنيتُ أن المسلمينَ يفهمونها كما أفهم منها).
اشترى المسور بن مخرمة طعاماً كثيراً أعّده للبيع، فخرج من المسجد
فرأى سحابَ الخريف فكرهه، فشقَّ عليه ما وقع في نفسه من كراهِيَتِهِ ذلك، فأمر
بالطعام إلى السوق وقال: من جاءني وليْتهُ([10]) كما أخذتُ، فقال له عمر بن الخطاب t : ما السبب يا مِسْور؟ فقال: رأيتُ سحاب الخريف
فكرهته، فرأيتُ أني كرهتُ ما ينفع المسلمين فأجمعتُ إلا أربحَ فيه شيئاً، فقال له
عمر t
: جزاك الله عن نفسك وعن المسلمين خيراً)([11]).
هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( فوربك لنسألنهم
اجمعين () عما كانوا يعملون ))([12]).
الخطبة الثانية
قال أحد العلماء
الفرنسيين - بعد ما قرأ حديث نبينا e
- (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه [من الخير])([13])، قال: لو عمِلَ
المسلمون بمضمون هذا الحديث لأغلقتْ مُعظمُ المحاكم أبوابها.
إنّ علينا أن نوجه
أولادنا ومَنْ حولنا للعمل بهذا المعنى الإنساني الذي تضمنه هذا الحديث الذي هو
أحد الدعائم الأخلاقية التي يقوم عليها هذا الدين العظيم.
قالت حفيدة علي طنطاوي (رحمه الله):
(أحْضَرَ جدي علي طنطاوي ألواحاً من الحلوى وقطعها أحجاماً مختلفة – على غير عادته
في العدل- وعندما لمحته ينظر إلى جهة أخرى، اغتنمتُ الفرصة وأخذتُ أكبرَ قطعة،
فالتفتَ ونظر إليَّ بنظرة ذاتَ مَغزى وهو يقول: استأثرتِ بأكبر قطعة؟ فاستحييتُ
وبكيتُ وامتنعتُ عن أكلها وجريتُ إلى الشرفة أتوارى وأتساءل: ماذا سيقول جدّي عني؟
أنانية!!! ليتني أخذتُ أصغر قطعة، وفجأة دخل بعدي وقال لي: أنتِ تفهمين المُراد،
قلتُ: أنا مخطئة باختياري وأنت أخطأتَ بتقطيعك للحلوى بهذه الطريقة، فقال: نعم يا
ابنتي، ولكنني أردتُ أن أعلمكم درساً وأنتِ لم تكوني يوماً
أنانية، ولا أريدُ أن يعرفَ أحدٌ بهذه القصة، وكانتْ درساً لي لن أنساه أبداً، فمن
يومها وأنا آخذ من الأشياء أقلها).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق