13‏/6‏/2013

كل حال يزول


كل حال يزول

 

قال تعالى : (( ... وتلك الأيام نداولها بين الناس ... ))([1]).

قال رسول الله e في قوله تعالى: (( كل يوم هو في شأن ))([2]). (من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرِّج كرباً، ويرفعَ قوماً ويخفِض آخرين)([3]).

أقول: (كلُّ حالٍ يزول) (وسبحان الذي يغير ولا يتغير ولا يحول ولا يزول ) وصدق الله من قال:

هي المقادير تجري في أعِنتها

                            فاصبر فليسَ لها صبر على حال

يوماً تريكَ خسيسَ الحال ترفعه

                           إلى السماء ويوماً تخفِضُ العالي

 

في أيام الحرب العالمية الثانية، وفي مجلس تاجر أغنام في [حماة – سوريا] تطرق الحديثُ إلى السلطان العثماني عبدالحميد الثاني (رحمه الله)، فقال التاجر: (وقعتْ بيد أبي جارية من جواري السلطان عبدالحميد الثاني (رحمه الله)، فجاء بها إلى حماة، وفي يوم من الأيام جاء إلى بيته فرأى الجارية تبكي فقال: ما بها؟ لعلكم آذيتموها؟ فقالت الجارية: لا، إنما أبكي على قدر الله تعالى، إني كنتُ في قصر يلدز، وكان من واجبي أنْ أملأ إبريق الماء للسلطان في صلاة الفجر فكنتُ كثيراً ما أسمعه يقول: كلُّ حالٍ يزول).

في حياة الأمم والشعوب والأفراد، أحوالٌ لا قرار لها، يظنها الغافلون ساعاتِ أمان، ولكنْ يصدقُ فيها قول القائل:

  إنما نعـــمة قــــوم متعة          وحياة المرء ثوبٌ مستعارُ

  بينما الناس على عليائها      إذ هوَوا في هوَّةٍ منها وغاروا

قال الوزير الكبير أبو الحزم بنُ جَهْوَر – وقد وقف على قصور([4]) الأندلس التي تقوضتْ أبنيتها، وعُوضتْ من أنيسها بالوحوش بيوتها- :

   قلتُ يوماً لدار قوم تفانوا      أين سكانُك العِزازُ علينا؟

  فأجابتْ: ههنا أقاموا قليلاً      ثم ساروا ولستُ أعلم أينا([5])

قال أهل الحكمة: (الدنيا مُرتجعَة الهبَة)، قالت هند بنتُ النعمان بن المنذر ملكِ العرب: (لقد رأتينُا ونحن من أعزّ الناس وأشدِّهم مُلكاً، ثم لم تغِب الشمسُ حتى رأتينا ونحن أقلَّ الناس، وإنه حَقٌ على الله ألا يملأ داراً حَبْرة([6]) إلا ملأها عَبْرة، -ولما سألها سائلٌ أن تحدِّثه عن أمرها قالتْ: أصبحنا ذاتَ صباح، وما في العرب أحدٌ إلا ويرجونا، ثم أمسينا وما في العربي أحد يرحمنا وبكتْ – ذاتَ يوم- أختها حرقة – وهي في عزها- فقيل لها: ما يُبكيك؟ لعل أحداً آذاك؟ قالتْ: لا، ولكنْ رأيتُ غضارة([7]) في أهلي، وقلما امتلأتْ دار سروراً إلا امتلأتْ حُزناً)([8]). وصدقتْ فقد قال لها زياد بنُ أبيه بعد نكبتهم: أخبريني بحالكم، قالتْ: إن شئتَ أجملتُ وإنْ شئتَ فسَّرتُ!([9]) فقال لها: أجملي، فقالتْ (بتنا نُحْسَد وأصبحنا نُرْحَم) فأعطاها دنانيرَ فأخذتها)([10]).

ولما قدم سعد بنُ أبي وقاص t القادسية،أتته في جَوار كلهنَّ في مثل زيِّها، يطلبْنَ صِلته فلما وقفنَ بين يديه قال: أيتكنَّ حَرْقة؟ قلنَ: هذه، قال: أنتِ حَرقة؟ قال: نعم،

فما تكرارُك في السؤال؟ إن الدنيا دارُ زوال، لا تدوم على حال، ثم أنشأت تقول:

بينا نسوس الناس والأمرُ

                        أمرنا إذا نحن فيها سوقة([11]) نتنصَّفُ([12])                      

  فأفٍ لدنيا لا يدوم نعيمُها

                                تقلبُ تاراتٍ بنا وتصرَّفُ([13])

قلتُ: لله دَرُّ القائل :

    فمَسّاهمُ وبُسْطهُمُ حرير

                                وصَبَّحهم وبُسْطهُمُ ترابُ

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( ... وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور ))

 

الخطبة الثانية

ما الذي يُفيد ما سبق من كلام؟

الفائدة الأولى: ما ذكره أهل الحكمة (أن الدنيا مُرتجعة الهِبَة) و (أن دوامَ الحال من المحال) والأمل برحمة الله قائم، ما قام الصبر عند العبد مقامه، و (أنَّ الدنيا دُولَ، والمال عاريّه، ولنا بمَنْ قبلنا أسوة، وبمن بعدنا عِبرة)(1).

ورحم الله عليَّ بن الجهم القائل:

   هي النفسَ ما حملتها تتحمل  

                             وللدهر أيامٌ تجورُ وتعدلُ

    وعاقبة الصبر الجميل جميلة  

                           وأفضلُ أخلاقِ الرجالِ التفضلُ

  ولا عارَ إن زالت عن الحُرِّ نعمة 

                            ولكنَّ عاراً أن يزولَ التجملُ([14])

 

قال أحد الدعاة: (إذا دَهَمتكم الشدائدُ وسُدَّتْ في وجوهكم مسالكُ الأرض وأغلقتْ أبوابُ الفرج، فارفعوا أيديَكم إلى السماء فإنَّ بابَ السماء لا يُغلقه ربكم أبداً، فسألوه يُعطِكم وأدعوه يستجب لكم).

وقد أحْضِرَ رجل في أيام نازوك([15]) أمير شرطة بغداد –أيام المكتفي بالله- ليقتلَ فدعا بطعام فأخذ يأكل ويضحك فقيل له: تضحك وأنت مقتول؟ فقال: من الساعة الساعة فرج – وأنا أتعجبُ منه- فسمِعتُ صيحة فقيل: مات نازوك الأمير، فخلوا الرجل سالماً)([16]).

والفائدة الثانية: أخذ الدروس والعِبر ممن ذهب وغَبَر، ورحم الله القائل:

   يا غافلاً وله في الدهر موعظة

                                  إن كنتَ في سنةٍ فالدَّهر يقظان

بل والله دَرُّ القائل:

  عَزَّ العَزاء وأعوز الإلمام

                                  واسترجعت ما أعطتْ الأيامُ



[1] [آل عمران: ١٤٠].
[2] [الرحمن: ٢٩].
[3] [167/ صحيح ابن ماجة/ عن أبي الدرداء].
[4] ( قصور الامويين )
[5] [525 ج1 نفح الطيب ]
[6] [ سرور ونعمة ]
[7] [ النعمة وطيب العيش]
[8] [ص86 (الصبر قي القران) للقرضاوي]
[9] [ أي أوضحتُ وبينتُ ]
[10] [ص18/ مجموع رسائل الجاحظ/ محمد طه الجابري/ 1943/ قاهرة].
[11] [الرعية من عامة الناس].
[12] [أي نخدم ]
[13] [جزء 3 ص181 خزانة الأدب]
[14] [الصبر على نوب الدهر وترك اظهار الذل والخضوع]
[15] [أبو منصور مولى أبي احمد المكتفي بالله]
[16] [ص143/ لطائف المعارف/ للثعالبي].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق