24‏/5‏/2013

كرامة بني آدم


كرامة بني آدم
قال تعالى: (( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا )) ([1]).
قال معاوية بن سُوَيد بنُ مُقرن (رضي الله عنه): لطمتُ مولى لنا فدعاه أبي ودعاني فقال: اقتصَّ منه، فإنا مَعشَر بني مُقرِّن كنا سبعة على عهد النبي e وليس لنا إلا خادم، فلطمهَا رجل منا فقال رسول الله e : اعتقوها، قالوا: إنه ليس لنا خادم غيرها، قال: فلتخدِمهم حتى يستغنوا فإذا استغنوا فليعتقوها)([2])
لقد كرم الله (عزل وجل) النفس الإنسانية –كائنة ما كانت- بفضل الله عليها، فكيفَ إذا كانت هذه النفسُ نفساً مسلمة؟!!
إن الظاهرة العدوانية في السلوك المتفشية في هذا البلد وقيامَ خلق التسلط وإهدارَ كرامة الآخرين مرض أوجدته عواملُ عديدة منها ما كان من سوء التربية، ومنها ما كان من فساد ظروف الحياة، ومنها آثار للمال الحرام، وأغلب ذلك شعور بالنقص يصرف صاحبه معاناتِه عن طريق سحق كرامة الآخرين إن كان مراجعاً في دائرة، أو زوجة ضعيفة في بيتها أو صاحب مركز على من دونه وهكذا، وقد قال الأولون: (ليس شرُّ اللصوص من يسلبُك مالكَ ومتاعك، ولكن شرَّهم من يسلبك حريتك وكرامتك وإنسانيتك) وقد صدق فينا قول القائل:
    إن كان عندك يا زمان بقيةٍ
                          مما يُهان به الكِرامُ فهاتها
عن أزهر بن عبد الله (رحمه الله): (إن قوماً سُرق لهم متاع فاتهموا ناساً من الحاكة، فأتوا النُعمان بن بشير t - صاحب رسول الله e - فحبسهم أياماً ثم خلى سبيلهم فأتوه فقالوا: خليتَ سبيلهم بغير ضرب ولا امتحان؟ فقال: ما شئتم؟ إن شئتم أضربهم فإن خرج متاعُهم فذاك، وإلا أخذتُ من ظهوركم مثل الذي أخذتُ من ظهورهم! فقالوا: هذا حكمُك؟؟؟ فقال: هذا حكم الله وحكم رسولهe)([3]).
ولما كان نبينا e قد قال: (ليس شيءً خيراً من ألفٍ مثلِه إلا الإنسان) فإن إهدار كرامته لا تجوز لأي سبب من الأسباب إلا بحق ما شرعه الله وشرعه رسوله e، وقد روى ابن عباس (رضي الله عنهما): (أن النبي e مَرَّ وهو يطوف بالكعبة بإنسانٍ رَبَط يَدُه إلى إنسان بسير أو بخيط فقطعه النبي e بيده ثم قال: قده بيده)([4]).
ورأى عاصم بن صخرة أناساً يتبْعون سعيدَ بن جُبير فنهاهم وقال: إن صنيعَكم هذا مذلة للتابع([5]) وفتنة للمتبوع.
ولما كان المؤمن لا ينبغي له أن يذِل نفسه لقوله e: (لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه)([6]) فلماذا يَعْمَد الكثيرون إلى إلحاق الأذى في الآخرين بالقول وبالفعل في عالم لا كرامة فيه ولا إنسانية إلا ما شاء الله.
قال إبراهيم النخعي (رحمه الله): (كانوا –أي الصحابة (رضي الله عنهم)- يكرهون أن يُسْتذلوا)([7]).
كتب الجراح بن الحكم إلى عمر بن عبد العزيز (رحمه الله): (إني قدمت خراسان فوجدتُ قوماً قد أبطرتهم الفتنة فليس يكفهم إلا السيف والسوط، وكرهتُ الإقدام على ذلك إلا بإذنك فكتب إليه عمر (رحمه الله): يا بن الجراح! أنت أحرص على الفتنة منهم، لا تضربنَّ مؤمناً ولا مُعاهداً سوطاً إلا في حق وأحذر القِصاص فإنك صائر إلا مَنْ يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)([8])
عن أبي أمامة t قال: (أقبل النبي e معه غلامان فوهَبَ أحَدَهما لعلي صلوات الله عليه، وقال: لا تضربه، فإني نُهيت عن ضرب أهل الصلاة، وإني رأيته يُصلي منذ أقبلنا، وأعطى أبا ذر غلاماً وقال: استوصي به معروفاً، فاعتقه، فقال: ما فعل؟ قال: أمرتني أن استوصي به خيراً فأعتقته)([9]).
هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى (( الم نخلقكم من ماء مهين ))([10])

الخطبة الثانية
خرج عمر t ذات يوم من منزله على بغلة له شهباء وعليه قميص له ومُلاءة مُمشَّقة([11]) إذ جاءه رجل على راحلة له فأناخها، فسأل عن عمر فقيل له: خرجَ وهو راجع الآن.
قال: فأقبل عمر t ومعه رجل يحادثه فقيل للرجل: هذا عمر أمير المؤمنين، فقام إليه فشكا إليه عديَّ بن أرطأة في أرضٍ له، فقال عمر t: أما والله ما غرّنا منه إلا عمامتهُ السوداءُ، أما إني قد كتبت إليه فضَلَّ عن وصيتي، إنه من أتاك ببينة على حق هو له فسلمه إليه، ثم هو قد عناك إليَّ فأمر عمر برد أرضه إليه ثم قال له: كم أنفقت في مجيئك إليَّ؟ فقال: يا أمير المؤمنين تسألني عن نفقتي وأنت قد رددتَ إليَّ أرضي وهي خير من مائة ألف!!! فقال عمر: إنما ردَدْتُ عليك حقك، فأخبرني كم أنفقتَ؟ قال: ما أدري، قال: أحزره قال: ستون درهماً فأمر له من بيت المال فلما ولى صاح به عمر t فرجع فقال له: خذ هذه خمسة دراهم من مالي فكل بها حتى ترجع إلى أهلك إن شاء الله)([12]).
قال عبدالله بن عمر t: (إنطلقت في ركب حتى إذا كان ذا المروة سُرقتْ عَيْبَة لي ومعنا رجل منهم فقال له أصحابي: يا فلان! أردُدْ عليه عيبته، فقال: ما أخذتها، فرجعتُ إلى عمر t فأخبرته فقال: من أنتم؟ فعددتهم، فقال: أظنُّه صاحَبها –للذي أتهمَ- فقلتُ: لقد أردت يا أمير المؤمنين أن آتي به مصفوداً. قال عمَر t: تأتي به مصفوداً بغير بينة)([13]).



[1] [الإسراء:70].
[2] [2279/ صحيح الترغيب].
[3] [4382/ أبو ولود في الحدود – 66/8 / النسائي – ص48/جـ5/ زاد المعاد].
[4] [4385/ صحيح الجامع].
[5] [ضد الكرامة الإنسانية].
[6] [613/ السلسلة الصحيحة].
[7] [ص599/ صحيح البخاري – شرح القسطلاني].
[8] [ص249/ مع الرعيل الأول/ محب الدين الخطيب].
[9] [3259/ السلسلة الصحيحة].
[10] [المرسلات:20].
[11] [أي مصبوغة بالمشّق وهو الطين الأحمر].
[12] [مجلة المسلمون/ العدد الرابع/ السنة 1390هـ].
[13] [132/11/ المجلى موسوعة فقه عمر/ ص568].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق