نكران المعروف والفعل الجميل مرض نفسي
عن أنس بن مالك t قال: (قال المهاجرون: يا رسول الله ذهب الأنصار
بالأجر كله، ما رأينا قوماً أحسنَ بذلاً كثيراً، ولا أحسن مواساة في قليل منهم ولقد كفونا المؤنة، قال: أليسَ تثنون
عليهم، وتدعون لهم؟ قالوا: بلى، قال: فذاك بذلك)([2]).
نكران الجميل ونسيانُ المعروف ربما كان – كما قال محمد مهدي البصير (رحمه الله)- :
(أدَلَّ شيء على خُبْث الذات) وهذا كلام سديد، يدل على أن ناكرَ الجميل مريض النفس
خبيثُ الذات، فاسدُ الإيمان.
فهم أحد الأطباء طبيعة هذه النفس، وكان يعتبر عرفانَ الجميل والوفاءَ
أكبرَ دَلالةٍ على الصحة النفسية فكان: (إذا جاءه مريض منقبضُ النفس أو يواجهُ
اضطراباً عصيباً يوجه إليه النصيحة الآتية: [أريدك فقط أن تكون وفياً، لا ناكراً
للجميل، كلما أسدى إليك أحدٌ جميلاً فكافئه أو قل له: أشكرك] وفي أغلب الأحيان يعود
المريضُ متحرراً من شكواه).
قال شكسبير: (لا أحسَبُ نفسي سعيداً في شيء كما في تذكّر جميلِ أصحابي
الأخيار فنكران الجميل أشد وقعاً من سيف الغادر)([5]).
قال حيدر قفة([7]): (أهديتُ بعضَ النُسخ من كتبي لعدد ممن أحبُّ في الله، ممن تعلمنا
على أيديهم العلمَ والحياءَ وبعضُ هؤلاء اخوة أجلاء، وبعضهم دعاة كبار، وكتبتُ
كلماتٍ رقيقة لبعضهم إهداءاً وتقديراً، فما كلف الواحد منهم نفسه أن يُرسل كلمة
تهنئةٍ أو عبارة شكر، أو يرفع سَماعة الهاتف ليقول كلمة –أي كلمة- حتى رَدَّ
التحية، وليتهم إذ نسُوا قالوها إذا تقابلنا([8])، ولكنهم تغافلوا تماماً... ثم قال: كم هو مُدوٍّ سقوط الجبل).
حكى أحد الأخوة قال: (في أيام الحرب العراقية الإيرانية تمت إحالتي
إلى اللجنة الطبية، ولشدة الزحام رجعت إلى الفندق، وفي طريقي وجدت بعضَ الجنود
عائدين إلى بيوتهم بعد الدوام، فوقفتُ وقلت: تفضلوا، فركبوا شاكرين وداعين لي
بالتوفيق، ولما رجعتُ في اليوم الثاني – وأنا بباب اللجنة- سمعتُ أحد الجنود يصيح
من الداخل! دكتور فنظرتُ فإذا أحد الجنود يأخذ بيدي، ودخل معي إلى اللجنة وقال لرئيس
اللجنة: هذا ابنُ عمي، فضحكوا وقالوا: أنت من الجنوب وهذا من الموصل!! وقام
بالواجب على أحسن ما يكون، فقلتُ له: لقد خدمتني خدمة لن أنساها –وأنا لا أعرفه-
فقال: [روح عمي خيرك سابق]، لقد أركبتني في سيارتك البارحة، فكيف أرُدُّ لك هذا
الجميل). تاريخ السيرة ذكر أن المُطعم بن عدي نقضَ الصحيفة التي كتبتها قريش على
بني هاشم وبني المطلب فلم ينسَ نبيُنا الوفيُّ هذا الجميل فقال في أسارى بدر: (لو
كان المطعمُ بن عديّ حياً، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له)([9]).
أثناء الحرب العالمية الثانية أسِرَ أحدُ الأطباء الألمان من قبل
الروس، وكان أحدُ آسريه مصاب بسرطان الرئة، فأجرى له عملية جراحية ناجحة، فأراد
الروسيُّ أن يكافأه فأجاب الطبيب الألماني إن خيرَ مكافأةٍ لي هي أن أراك معافى.
وصمتَ الضابط الروسي ثم قال: إنني مسؤول عن معقتل للأسرى بسبيريا فيه ألمان عديدون
وقد تذكرتُ اسمَ طبيب فيهم (زاور بروخ) فهل هو قريب لك فقال: -ودموع الفرح في
عينيه- : إنه ولدي، فقال الروسي: لقد رددتَ عليَّ صحتي.. فسأردُ لك ولدك، وبعد
اسبوعين حضر الضابط الروسي ومعه الابن وكمية من الطعام)([11]).
الخطبة الثانية
قال القاضي أبو
القاسم التنوخي (رحمه الله): (كنت اتقلد القضاءَ بالكرخ، وكان بّوابي بها
رجل له ابن عمرهُ عشر سنين، كان يدخل داري بلا إذن ويمتزجُ مع غلماني وأهبُ له
الدراهم والثيابَ، ومضتْ السنونُ وانحدرتُ إلى واسط فقيل لي: إن في الطريق لصاً
مُستفحلُ الأمر، وخرجتُ وفي عودتي خرج علينا اللصوص في سُفن عِدّة في نحو مائة رجل
كالعسكر العظيم، وإذا بسفينة رئيسهم قد دنتْ فحين رآني رئيسُهم زَجَر أصحابه عني
وجعل يتأملني ثم أكب على يَدَيَّ يُقبلهما، وقال: أما تعرفني يا سيدي؟ فقلتُ: لا
والله، قال: أنا عبدك فلان الكرخي، أنا الصبي الذي تربيتُ في دارك، فعرفته فسكر
روعي، فمنع جميعَ أصحابهِ من أخذِ شيء مما كان في السفن وأطلق الناسَ وسار معي إلى
حيث أمّن عليَّ وودعني وانصرف)([13]).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق