16‏/6‏/2013

مظاهرة الباطل


مظاهرة الباطل

 

قال تعالى: (( قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ))([1])

من كلام نبينا e: (مَنْ أعان ظالماً بباطل ليُدحِضَ بباطِلِه حقاً فقد برئ من ذِمة الله (عز وجل) وذمةِ رسوله e)([2]).

قال مسعود بن الأسود t : (لما سَرَقتْ المرأةُ تلك القطيفةِ من بين رسول الله e أعْظَمْنا([3]) ذلك -وكانت امرأة من قريش- فجئنا إلى النبي e نكلمُهُ وقلنا: نحن نفديها بأربعين أوقية([4]) فقال رسول الله e: (( تطهُر خيرٌ لها))، فلما سمعنا لِينَ رسول الله e أتينا أسامة t فقلنا: كلم رسولَ الله e فلما رأى رسول الله e ذلك قام خطيباً فقال: ما إكثاركم عليَّ في حدٍ من حدود الله (عز وجل) وقع على أمةٍ من إماء الله؟ والذي نفسُ محمد بيده لو كانت فاطمة بنتُ رسول الله e نزلت بالذي نزلت به([5]) لقطعَ محمد يدها)([6]).

من الظواهر المؤلمة جداً والمخزية أنك لا تجدُ أحداً ارتكبَ جريمة ما إلا وجدتَ حوله عشراتِ الشفعاء والمدافعين عنه بكل ما لديهم من الباطل، وكأن الذي يحتاج إلى نصرةٍ هو الظالم وليسَ المظلوم الذي فقد حياته أو ماله أو شرفه.

اللهم صلِّ على رسولك القائل: (إنه لا قدِّسِتْ أمة لا يأخذ الضعيفُ فيها حقه [من القوي] غير متعتع([7]))([8]).

ذكر التاريخ: (أنَّ أحد قوادِ بني الأغلب إنصرف من بعض الحروب بعددٍ من الحرائر أخذهن سبايا فركب إليه سَحْنون – القاضي- ونزعهنَّ من يده فدخل هذا القائد على الأمير محمد بن الأغلب،

وقد شق ثوبه وذكر ما نزل به، فأرسل محمد بن الأغلب إلى سَحنون أن يرد النساء إلى منصور فأبى، فأرسل إليه ثانية وثالثة وهو يقول: لا أفعل، فغضب الأمير غضباً شديداً ودعا أحَدَ أتباعِهِ وقال له: اذهب إلى القاضي وقل له: أردد السّبيَ فإن أبى فأتني برأسه فجاء الفتى إلى سَحنون القاضي يبكي ويتضرع ويقول: أمِرتُ فيك بأمر عظيم، فكتب سَحنون (رحمه الله) كتاباً وقال له: ادفعه إلى ابن الأغلب فرجع الفتى إلى الأمير ودفع إليه الكتاب، فلما قرأه إذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم (( يا قوم مالي ادعوكم الى النجاة وتدعونني إلى النار ))([9]) فوجَمَ([10]) الأمير واحتجبَ في منزله ثلاثة أيام ثم قال لقائده: سلني عما شئت من حوائجك وأعرض عن خبر القاضي).

محمد نجيب باشا – محامي مصري- أرسل ابنُه أحمد – الذي يدرس في لندن- يطلب منه مالاً لإكمال دراسته، ولم يجد الأبُ ما يُسعِف طلب ابنه، وفي هذه الأثناء تقدم إليه متهم وعرض عليه ألفي جنيه على قضيته، فقال المحامي: انظر فيها، فلما نظر فيها تبين له أن الأمور يتعلق بتهمة مخدرات فاعتذر قائلاً: إن ضميري لا يسمح لي بذلك، فلامته العائلة وابنهُ فقال لابنه: إنك تشتغل مع الله، فكن في جانِب الحق مهما كان الثمن).

أتهِمَ حبيب القرشي في اغتصاب صَنيْعة([11]) فحكم عليه القاضي نصرُ بن ظريف اليحصبُي فدخل حبيب على الأمير عبد الرحمن بن معاوية – أمير الأندلس- فأرسل الأمير إليه وكلمه في حبيب ونهاه عن العجلة عليه، فخرج القاضي من يومه وعمل بضِدِّ ما أرادَ الأمير، وأنفذ الحكمَ وبلغ الخبرُ حبيباً فدخل إلى الأمير مُتَّغِراً([12]) غيظاً فذكر له ما عمِله القاضي، ووصفه بالاستخفافِ بأمره فغضب الأمير على القاضي واستحضره وقال له: مَنْ أمَرَك أن تنفذ حُكماً وقد أمرتُك بتأخيره والأناة به؟ فقال له: قدّمني عليه نبيك محمد e فإنما بعثه الله بالحق ليقضيَ به على القريب والبعيد والشريف والدنيء وأنتَ أيها الأميرُ! ما الذي حمَلكَ على أن تتحاملَ لبعض رعيتك على بعض وأنتَ تجد مندوحة([13]) بأن ترضيَ من مالك مَنْ تعنى به؟ فقال الأمير جزاكَ الله يا ابنَ طريفٍ خيراً)([14]).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب اليم )) ([15]).

 

الخطبة الثانية

قال سليمان فيضي – رئيس الحقوق في محكمة بداءة البصرة- : (في عام 1909م أمر والي البصرة بهدم السوق المحاذي للنهر لمَدِّ شارع العشار، ونفذتْ البلدية الأمَر ولم تدفع تعويضاً لصاحب السوق([16]) فقدم شكوى إلى الوزارة، فنظمتْ البلدية مضبطة بلا علم الوالي أنَّ هذا التاجر رجلٌ مجهول، قال سليمان فيضي: فلما جيء بالمضبطة رفضتُ التوقيع عليها وأعدتها إلى رئيس البلدية مع تعليق تضمن: ترَفعي أن أكون شاهد زور، وفي صباح أحد الأيام دعاني الوالي للإفطار عنده ورشحني لعضوية المحاكم ووبَّخ الموقعين على المضبطة)([17]).

ذكر التاريخ: (أنَّ أحد أولاد القاضي شُريح([18]) قال له – وهو في البيت- : إن بيني وبين قومي خصومة، وأريد أن أعرف إذا كان الحق لي لأخاصمهم عندك، أو ليس لي لأتركَ الخصومة، وقصَّ على أبيه قصته، فقال له أبوه: خاصمهم، فتقدم الابنُ وأدعى على أولئك فحكم شريح على ابنه، ولما عادَ إلى البيت قال له: يا أبتِ! فضحتني ولو لم أقصّ عليك القصة قبل المحاكمة لما لمُتك فلماذا أدخلتني هذه الورطة وقلتَ لي: خاصمهم؟ فقال له أبوه: يا بني! والله إنكَ أحبُّ إليَّ منهم، ولكنَّ الله (عز وجل) أعزُّ عليَّ منك، وإنك لما قصصتَ عليَّ قصتك خشيتُ أن أخبرك بأن الحق عليك فتتركَ الخصومة ويضيعَ حقهم، وخشيت أن تذهب فتصالحهم على شيء تأخذه منهم خارج مَحِل القضاء).



[1] القصص: ١٧.
[2] السلسلة الصحيحة، 3/1020].
[3] أي: رأينا شيئاً عظيماً.
[4] الأوقية: 12 درهم.
[5] أي: هذه المرأة.
[6] مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة، شهاب الدين، 2/906.
[7] أي: غيرخائف.
[8] صححي الجامع، 1/2421، والزيادة للطبراني.
[9] غافر: ٤١.
[10] عجز عن الكلام.
[11] الأرض المُغلِة.
[12] أي: يكاد يغلي غيظاً.
[13] أي: سَعَة وفسحة لترك ذلك.
[14] تاريخ قضاة الأندلس، ص44.
[15] الشورى: ٤٢ .
[16] اسمه: أغا جعفر، تاجر معروف.
[17] مذكرات سليمان فيضي، ص90.
[18] ولاه عمر t قضاء الكوفة واستمر فيها خمساً وسبعين سنة.

الزكاة فريضة وإحسان


الزكاة فريضة وإحسان

 

قال تعالى: (( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ... )) ([1])

من كلام نبينا e: (ثلاث من فعلهن فقد طعْمَ الإيمان: من عبد الله وحدهَ، وأنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسُه، رافدة عليه كلَّ عام([2])، ولا يُعطي الهَرمَة([3])، ولا الدرنة([4])، ولا المريضة، ولا الشرْط: اللئيمة، ولكنْ من وسَطِ أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيْرَهُ، ولم يأمركم بشرِّه)([5]) زاد البيهقي زيادة صحيحةٍ، [وزكى نفسه، فقال رجل: وما تزكية النفس؟ فقال: أن يعلم أن الله (عز وجل) معه حيث كان]([6]).

قال أبي بن كعب t: (بعثني النبي e على صدقة [بليٍّ وعُذرة]([7]) فمررْتُ على رجل من بَليٍّ له ثلاثونَ بعيراً فقلتُ له: إنَّ عليك في أبلك هذه بنتَ مخاض([8]). قال: ذلك ما ليس فيه ظهرٌ ولا لبن وإني أكره أنْ أقرضَ الله شرَّ مالي فتخيَّر، ولكنْ هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذها، فقلتُ له:

ما أنا بآخذٍ ما لم أؤمر به، وهذا رسولُ الله e منك قريب، فإن أحببتَ أنْ تأتيهُ فتعرضَ عليه ما عَرَضتَ عليَّ فافعل، فإنْ قبله منك قبلته وإن ردَّه عليك ردَدْتهُ، قال: فإني فاعل، فخرج معي وخرج بالناقةِ التي عرَض عليَّ حتى قدِمنا على رسول الله e فقال نحواً مما قال لأبي، فقال له رسول الله e: ذاك الذي عليك فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك، قال: فها هي ذِه يا رسولَ الله، قد جئتك بها فخذها، قال: فأمر رسول الله e بقبضِها ودعا له في ماله بالبركة، قال عمارة([9]): فضرب الدهرُ ضرْبة.. فمررتُ بهذا الرجل فصّدَّقتُ ماله [ثلاثين حِقة]([10]) فيها فحلها على الألف وخمس مائةِ بعير)([11]).

لما قرأتُ هذا الحديث، عن هذا الصحابي المُحسن تذكرت قول نبينا e: (ثلاثة أقسِمُ عليهن وأحدِّثكم حديثاً فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة...)([12]). و: (ما من يوم يصبحُ العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقولُ أحدهما: اللهم أعطِ منفقاً خلفاً ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً)([13]).

وفي باب زكاة حُليِّ النساء أعجبني موقفُ صحابية مُحسِنة حكاه الإمام الشعبي (رحمه الله) قال: (سمعتُ فاطمة بنتَ قيس (رضي الله عنها) تقول: أتيتُ النبي e بطوق فيه سبعونَ مثقالاً من ذهب([14])، فقلتُ: يا رسول الله: خذ منه الفريضة التي جعل الله، قالت: فأخذ رسول الله e مثقالاً وثلاثة أرباع المثقال، فوجهه، قالت: فقلتُ: يا رسول َ الله! خذ مِن الذي جعل الله فيه، فقال: يا فاطمة! إن الحق (عز وجل) لم يُبق لكِ شيئاً. قالت: قلتُ: يا رسولَ الله! رَضِيَتْ نفسي ما رضي الله (عز وجل) به ورسوله)([15]).

قلتُ: أعجبني جداً ما ذكره الإمام الخطابي في كتابه القيّم (معالم السنن) حول حُليِّ النساء جاء فيه: (الظاهر من الآيات يشهد لقول من أوجبها والأثر يؤيدها، ومن أسْقطها ذهب إلى النظر ومعه طرف من الأثر، والاحتياط أداؤها والله أعلم).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( وما اموالكم ولا اولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى الا من امن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون )) ([16]).

 

الخطبة الثانية

قال علماء الاجتماع: (الغنى وظيفة اجتماعية) وقد سبقهم القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قوله تعالى: (( ... وأنفقوا فيما جعلكم مستخلفين فيه ... )) ([17]).

قال عليُّ بن أبي طالب t: (إن الله فرض على أغنياء المسلمين – في أموالهم- ما يسع فقراءَهم). وفوق ذلك فالزكاة تطهير للنفس من الشح وتطهيرٌ للمال، ومجلبة للمحبة، ومدفعة للحسد والبغضاء، وبركة ونماء للمال، وشكرٌ لنعمة الله (عز وجل).

ولا بد لي في هذا الموضوع – وفي هذه الأيام- أن ألفِتَ نظر إخواني إلى الاهتمام بذوي القربى أولاً، ثم الأباعد، وقد قصصتُ عليكم قبل خمس سنوات القصة الآتية: حكى لي أحد الأخوة القادمين من اليمن قال: (أقام رجل سقاية([18]) بين مدينتي سيئون وتريم، فلما وضع فيها الماء، وآوى إلى فراشه رأى في منامه رجلاً صالحاً يقول له:


[سقايتك ليست طاهرة] فذهب إليها ونظفها، وتكررت هذه الرؤيا ثلاث مرات، فوضع رقيباً عليها، فوجد أن أحد أقارب المُحسن -صاحب السقاية- هو الذي يفعل ذلك. فكتم الخبر وسأل أولاده: هل دفعتم الزكاة لفلان؟ قالوا: لا، فأخذ كل ما يلزم من طعام وشراب وذهب مع أولاده إليه – ولم يخبره بشيء- فلما كان اليوم التالي، عاد إلى السقاية فوجدها نظيفة).


قلتُ: قال نبينا e: (أفضل الصدقة، الصدقة على ذي الرحم الكاشح)([19]).


http://youtu.be/A5Cj6Rcdjqk رابط الخطبة على يوتيوب




[1] التوبة: ١٠٣.
[2] أي: عطاء عليه في كل عام.
[3] المسنة الضعيفة كِبراً.
[4] الفاسدة.
[5] السلسلة الصحيحة، 3/1046.
[6] سنن البيهقي، 4/95.
[7] قوم من حلفاء الأنصار.
[8] هي التي لها سنة ودخلت في الثانية.
[9] أحد رواة الحديث.
[10] ما طعن في الرابعة من الإبل في الذكر والأنثى واستحق أن يُحمل عليه.
[11] صحيح أبي داود، 1584. صحيح ابن حبان، 1/664.
[12] متفق عليه.
[13] متفق عليه.
[14] حُليٌّ للعنق يحيط به.
[15] السلسلة الصحيحة، 1876 . ورواه أبو الشيخ في جزئه بسند صحيح.
[16] سبأ: ٣٧ .
[17] الحديد: ٧ .
[18] ماء السبيل لشرب الناس].
[19] صحيح الترغيب والترهيب، 894.