شهر رمضان.. شهر
تراحم وسرور
مُلِئت بيوت الناس بالهموم، وقلما تجد بيتاً لم يُصبْ بنكبة في مالِه
أو دمِه أو عِرضه، ولما كان نبينا e قد قال: (من أفضل الأعمال إدخال السرور على
المؤمن، تقضي عنه دَيْناً، تقضي له حَاجة، تنفس له كربة)([2]). فإن هذا الشهر المُبارك يجب أن يكونَ دخوله على الناس فاتحة خير
وبركة ورحمةٍ، وتخفيف للهموم وهذه كلها آثار للتقوى، فرمضان مدرسة لتجديد الإيمان
وتهذيب الأخلاق، وتعظيم شعائره من علامات الإيمان.
ومن تعظيم هذا الشهر ما كان يفعله نبينا e فيما رواه ابن عباس (رضي الله عنهما) قال:
(كان رسول الله e
أجودَ الناس وكان أجودَ ما يكون في رمضان)([3]).
وهو شهر الفضل والإحسان في جميع وجوه الخير، فهو يؤدب النفس ويخرجُها
من خسَاسة الشُّح إلى فضيلةِ الجود.
ذكر الرحالة ابن بطوطة (رحمه الله) أن: (من
فضائل أهل دمشق أنه لا يفطر أحد منهم - في ليالي رمضان - وحده البتة فمن كان غنياً
فإنه يدعو أصحابه والفقراء في دار أحدهم أو في مسجد ويأتي كلُّ واحد بما عنده
فيفطرون جميعاً)([5]).
وذكر محمد كرد علي (رحمه
الله) في مذكراته: (أن أحدَ
أعيان دمشق([6]) يدعو إلى قصره - في رمضان - أربعمائة أو خمسمائة فقير ويهيئ لهم ألذ
المآكل التي تفاخر بها دمشق والحلوى والفاكهة، حتى إذا طعموا وخرجوا من الباب
تلقاهم الخدم وقد أعدوا لكل مدعو ثوباً ونعلاً، وريالاً ينفق مهنه على عياله)([7]).
وهو يؤدب الجوارحَ حتى يلزمَها التقوى، عفة في اللسان عن الكلام
الفاحش، وعفة في الأذنين عن سماع الخَنا والباطل، وعفة في العينين عن النظر إلى ما
حَرَّمَ الله. وقد قال العلماء (رحمهم
الله): (طول الاستماع إلى
الباطل يطفئ حلاوة الطاعة في القلب).
عن علي بن أبي طالب t قال: سمعتُ رسول الله e يقول: (ما هممت بشيء([8]) مما كان أهل الجاهلية يَهُمّون به إلا مَرَّتين من الدهر، كلاهما
يعصمني اللهُ تعالى منهما، قلتُ ليلة لفتىً كان معي من قريش في أعلى مكة –في أغنام
لأهلها- ترعى: أبصِر لي غنمي حتى أسْمُرَ هذه الليلة بمكة كما تسْمُر الفتيان،
قال: نعم، فخرجتُ فلما جئت أدنى دار من دور مكة سمعتُ غناءً وصوتَ دفوفٍ وزَمْرٍ،
فقلتُ: ما هذا؟ قالوا: فلان تزوج فلانة –لرجل من قريش تزوج امرأة- فلهوتُ بذلك
الغناء والصوت حتى غلبتني عيني، فنِمْتُ فما أيقظني إلا مَسُّ الشمس ثم رجعتُ...([9]) إلى صاحبي فقال: ما فعلتَ؟ فقلتُ: ما فعلتُ شيئاً. قال رسول الله e:
فوالله ما هممتُ بعدها أبداً بسوءٍ مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله تعالى
بنبوته)([10]).
هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( ذلك ومن يعظم من
شعائر الله فإنها من تقوى القلوب )) ([11]).
الخطبة الثانية
أعجبني جداً كلامٌ
للإمام الزهري (رحمه الله)، حيث قال في رمضان: (إنما هو تلاوة القرآن،
وإطعام الطعام) قلت: قد تكملتُ عن إطعام الطعام، أما عن القرآن فأقول:
والله لو قرئ كما كان
يقرأه النبي e وصحابته الكرام وعمل بما فيه لكنا أعز خلق الله
عز وجل، وهذه الأيام هي الأيام التي نزل فيها القرآن الكريم على قلب أشرف الخلق
سيدنا محمد e،
الذي (كان يقرأ مترسِّلاً إذا مَرَّ بآية فيها تسبيح سبح وإذا مَرّض بسؤال سأل،
وإذا مَرَّ بتعوذ تعّوذ)([12]) و (كانت مُفسَّرة
حرفاً حرفاً)([13]).
عن صالح بن جبير (رحمه الله) قال: قد علينا جمعة
الأنصاري - صاحبُ رسول الله e-
بَيْتَ المقدس ليُصليَ فيه، ومعنا رجاء بنُ حَيوة يومئذٍ، فلما انصرف خرجنا
معه لنشيّعَهُ، فلما أردنا الانصراف قال: إن لكم علي جائزة وحقاً، أحدِّثكم بحديث
سمعته من رسول الله e.
قال: فقلنا: هاتِه يرحمك الله! قال: كنا مع رسول الله e معنا معاذ بن جبل عاشِر عَشرة، قال: فقلنا: يا
رسول الله! هل من قوم هم أعظمُ منا أجراً، آمنا بك وأتبعناك؟ قال: ما يَمنعكم من
ذلك، ورسول الله e
بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء؟ بل قوم يأتون من بعدكم، يأتيهم كتاب بين
لوحين، يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم مِنكم أجراً)([14]).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق