10‏/6‏/2013

استهواء الفكر والسلوك الغوغائي

استهواء الفكر والسلوك الغوغائي
 
قال تعالى: (( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الإنس والجن لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام با هم أضل أولئك هم الغافلون ))([1]).
من كلام نبينا e: (إن بين يدي الساعة لأياماً ينزل فيها الجهل ويُرفعُ فيها العلمُ، ويكثرُ فيها الهَرْجُ)([2]).
الحوادث الجسام التي مَرّت على هذا البلد في تاريخه الدموي الطويل أخذت عقولَ كثير من الناس وأورثتْ أصحابَها الفكر الغوغائيَّ الذي لا يعرف أصحابه متى يسكتون ومتى يتكلمون.
قال أحد الدعاة([3]): (... بعد تأمل يسير تحكم بأن الأوهام تحرك جماهير البشر وتنفرد بزمامهم) وقديماً قال أهل العلم: (إن الفكرَ الغوغائيَّ فكرٌ أعمى).
 
قِيل لأبي أسيد الساعدي t : أين كنت يوم الحَرَّة([4]) قال: في بيتي... ثم قال: (دخل علينا رجل من أهل الشام – والمدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم – تنتهبُ، فما ترك في بيتي شيئاً إلا أخذه، حتى أخذ يَعْقوباً([5]) من هذه اليعاقيب كان لصبيٍّ لنا، احتمله، وجعل الصبي يبكي على طائره فقلت للشاميِّ: لو رددتَ على الصبي طائرَهُ! فنال مني، حتى إذا خفتُ أن يقتلني، فقلتُ لكي أكسِرَه([6]) :
أنا صاحب رسول الله
e !!! قال: لو كنتَ صاحب رسول الله e ما تركتَ ابن حنظلة([7]) يخرج على أمير المؤمنين، ولا يشق العصا هو وأصحابُه، فسكتُّ عنه فجعل يقول: والله لقد هممتُ أنْ أضربَ عنقك، قال: فصرفه الله عني)([8]). (إن الفكر الغوغائيَّ يُسْقِط كلَّ الاعتبارات الإنسانية، والدينية مهما كان ثِقلها). قال محمد بن مسلم (رحمه الله): (احذروا الغوغاء([9]) فإنهم قتلة الأنبياء)([10]). و (مادة الطابور الخامس).
قال هتلر في كتابه (كفاحي): (لقد أدرك انكليز وجهلنا نحن، أن سواد الشعب في الأزمات تكون له نفسية المرأة، بحيث تأتي آراؤه وتصرفاتِه وليدة المؤثراتِ أكثرَ مما تأتي نتيجة التفكير المجرد...)([11]).
دعا السيد عبُد الله – وهو أحد تجار حلب – دعا مُتسَلم([12]) حلب إلى داره، ولما رجع مات بعد ثمانية أيام، فأتهم الناسُ السيدَ عبدالله بأنه دّسَّ السُّم إلى المتسلم – وكانت أيام غلاء- وكان السيد متهماً بالاحتكار، ولما حُمِل المتَسَلم ليُدفنَ كان السيد عبدالله من جملة المشيعين، فصاحت امرأة: هذا قاتل المتسلم، وتبعها في الصراخ رجل من العوام فصاح الرجال والصبيان وهجموا على السيد عبدالله وضربوه بالحجارة فأصابتْ واحدة منها رأسه، وعثرت به الفرسُ فانكب على وجهه، فهجم عليه الناس وقتلوه ولم يُبقوا فيه عضواً صحيحاً)([13]).
قال علماء النفس: (في الإنسان ميل فطري يجعله يتأثرُ بأفكار غيره واعتقاداته فيقبَلها في كثير من الأحيان بيسر – وإن لم تكن مُستندة إلى عقل ومنطق- ويسمون ذلك – في علم النفس- الاستهواء أو الإيحاء).
قال أهل الفهم: الرجال ثلاثة!
1-                   رجل ترد عليه الأمور فيصدِّرها برأيه.
2-                   ورجل يشاور فيما أشكل عليه ويَنزل حيث يأمره أهل الرأي.
3-                   ورجل حائر بائر لا يأتمر رشداَ ولا يطيع مرشداً.
من كلام الإمام مالك (رحمه الله): (عليك بالبين المَحْض، وإياك وبُنيّات الطريق، وعليك بما تعرف، وإياك ما لا تعرفه).
هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون )) ([14]).
 
الخطبة الثانية
ويدخل في هذا الباب مواقف الاستخفاف بعقول الغوغاء لتحقيق المكاسب المادية، أو لصرف عقولهم –أثناء الأزمات السياسية- إلى وجهة معينة. في عام 1760م فوجئ الزائرون لمشهد السيدة نفيسة بروُية الشيخ عبداللطيف – شيخ خدَمِها- جالساً بالباب وإلى جواره عَنْزة، وتساءل الناس: ما هذا يا سيدنا الشيخ؟ قال: هذه عَنْزة مباركة جاء بها أسرى عند الإفرنج لأنها كانت سبباً في خلاصهم لرؤيا رآها كبير الإفرنج، وظل يردد هذه الفرية ومعه خدم المشهد، وادّعوا أنها تأكل اللوز والفستق ولا تشرب إلا ماءَ الورد والسكر فانهالت كميات وافرة من تلك الأصناف، ولما وصل الخبر إلى الأمير عبدالرحمن أرسل إلى الشيخ عبداللطيف يطلب حضوره ومعه العَنزة ليتبركَ بها، فجاء ومعه موكب فأجلسه مع الأعيان، وجاء رسول - من بيت الحريم- يطلب العنزة للنساء حتى يتبرَّكنَ بها، - وكان رسولُ الحريم طباخَ الأمير فأخذ العنزة فذبحها وقدمها أمام الأمير والشيخ عبداللطيف، وجعل الشيخ يأكل منها ويقول: إنه لحم طيب، ولما فرغ طلب الشيخ العنزة فضحك الأمير وقال: لقد أكلتها يا شيخ! فبُهِتَ وانعقدَ لسانهُ فانهال عليه توبيخاً وأمر أن يوضع جلدُ العنزة على رأسه وأن يعود إلى المشهد، وسارَ تتقدمَّه الطبول ولما وصل، اختفى الشيخ عبداللطيف ولم يعثر له على أثر)([15]).


[1] [الأعراف:179].
[2] [2547/ السلسلة الصحيحة].
[3] [مصطفى السباعي].
[4] [وقعة المدينة المنورة بقيادة مسلم بن عقبة].
[5] [طائر الحجل].
[6] [أي لأخفف من حدته].
[7] [يعني الذي خرج على يزيد بن معاوية].
[8] [ص182/ المحن/ محمد التميمي/ كلية الآداب/ مكتبة].
[9] [سفلة الناس، المتسرعون إلى الشر].
[10] [12/198/ سير أعلام النبلاء].
[11] [ص102/ كفاحي/ 195/ صلاح/ المكتبة المركزية العامة].
[12] [المنصرف والمحافظ لمدينة حلب].
[13] [ص257/ جـ2/ موسوعة العذاب/ عبود الشالجي].
[14] [التوبة:126].
[15] [ص22 – 123/ طرائف من التاريخ/ مصطفى السباعي].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق