العقل في زمن الفتن
قال أبو موسى الأشعري t:
حدثنا رسول الله e
قال: (إن بين يدي الساعة لهَرْجَاً، قالَ: قلتُ: يا رسول الله! ما الهرجُ؟ قال:
القتل، فقال بعض المسلمين: يا رسول الله! إنا نقتل الآن في العام الواحد من
المشركين كذا وكذا، فقال رسول الله: ليس بقتل المشركين ولكن يقتل بعضكم بعضاً [حتى
يقتلَ الرجل جاره، ويقتلَ أخاه، ويقتل عمّه، ويقتل ابن عمه] [وذا قرابته] قالوا:
ومعنا عقولنا يومئذ؟ قال: لا، تنزَعُ عقولُ أهل ذلك الزمان، ويَخْلِفُ له هباء من
الناس لا عقول لهم) قال أبو موسى t
والذي نفسي بيده ما أجد لي ولكم منها مخرجاً -إن أدركتني وإياكم- إلا أن نخرج منها
كما دخلنا فيها لم نصِبْ منها دماً ولا مالاً)([2]). قال العلماء: أضل الناس في أزمنة الفتن (رجل فقد حرية فكره وإرادته)([3])
فهو يتكلم بلسان غيره ويفكر بفكر الآخرين، قال أهل الحكمة: (كما أن
البصر إذا اعتل رأى أشكالاً وخيالاتٍ لا حقيقة لها، كذلك النفس إذا تدلهت([4]) رأت الآراء الكاذبة حقائق)، واليوم لديَّ نصيحتان أولاهما للرعية
والأخرى للمسؤولين الرعاة، أما نصيحة الرعية، فأقول: إياكم أن يكونَ أحُدُكم قتيل
عَمّيه فـ (أخطر الأزمنة زمن لا يتميز فيه الصواب).
قال قتادة t
(إن المؤمن حيُّ القلب حيُّ البصر سمع كتاب الله فعمل به، وإن الله قد علمكم فأحسن
تعليمكم، فأخذ كلُّ رجل بما علمه الله ولا يتكلف ما لا علم له به فيخرج من دين
الله...) أما نصيحتي لإخواننا المسؤولين فأقول: لأجل أن نجنب هذا البلد صراعاً
سياسياً لا يعلم عواقبه إلا الله، عليهم أن يحافظوا على وحدته، وأن يعيدوا النظر
فيما كان يصل إليهم من أخبار المظالم ويكافحوا الفساد المستشري، ويعاقبوا المفسدين
ويُظهروا الإنصاف [فلا يُقال للمضروب لا تبكِ ولكنْ يُقالُ للضارب: كفَّ عن الضرب]
فدوام الحكم غيرُ مرهونٍ بقوة الحكام، إنما هو مرهون بقوة أحكم الحاكمين وهذا
الفهمُ نادراً ما يأخذ به الحكام – ما داموا في مراكز الحكم – هدانا الله وإياهم
إلى حسن العواقب، وقد سأل رجل بعض حكماء بني أمية: ما كان سبب زوال نعمتكم؟ فقال:
قد قلتَ فاسمع،
وإذا سمعتَ فافهم (إنا قد شغلنا بلذتنا عن تفقد ما كان تفقدُه يلزمنا،
ووثقنا بوزرائنا فآثروا مرافقهم على منافعنا، وامضوا أموراً دوننا، أخفوا علمهم
عنا، وظلِمتْ رعيتنا ففسدت نياتهم لنا ويئسوا من إنصافنا، فخربتْ معايشهم... وكان
أولَ زوال ملكنا استتارُ الأخبار عنا)([5]).
ولما ظفر الخليفة العباسي المنصور برجل من كبراء بني أمية قال له:
(إني سائلك عن أشياء فاصدقني ولك الأمن، قال: نعم، فقال المنصور: مِن أين أتيَ بنو
أمية حتى أنتشر أمرهم؟ قال: من تضييع الأخبار لهذا السبب كان المنصور يقول: (ما
أحوجني أن يكون على بابي أربعة نفر، لا يكون على بابي أعفَّ منهم، هم أركان
الدولة، ولا يصلح الملك إلا بهم، أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم،
والأخرُ صاحبُ الشرطة يُنصِفُ الضعيفَ من القوي، والثالث صاحبُ خَراجٍ يستقصي ولا
يظلم الرعية، ثم عضَّ على أصْبُعِهُ السبّابة ثلاثَ مرات، يقول في كل مرة آه آه،
قيل له: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحة)([6]).
قلتُ: صدق بَهْرام([7]) جور القائل: ( لا شيء أضّرَّ على المَلِك من استكفاء من لا ينصح إذا
دَبَّر، واستخبار من لا يُصَدَّق إذا خبَّر)([8]). لما أحيط بمروان الجعدي([9]) قال: لهفاه على دولة ما نُصِرتْ، وكفٍّ ما ظفرتْ، ونِعمةٍ ما
شُكِرتْ، فقال له خادمه نسيل – وكان من أشراف الروم- : من أغفلَ الصغير حتى يكبرَ
والقليل حتى يَكثرَ والخفِيَّ حتى يظهرَ أصابه مثل هذا)([10]). هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( ... فاعتبروا
ياولي الابصار ))([11]).
الخطبة الثانية
(لما انتقضت أسفلُ
الأرض كلها بمصر – في زمن الخليفة المأمون العباسي- وأخرجوا العمال([12]) وخالفوا الطاعة، هبط
المأمون بنفسه مِصْرَ لعشر خلون من المحرم سنة سبع عشرة ومائتين، وسَخِطَ على
عامله عيسى بنِ منصور وأمر بحل لوائه وقال: لم يكن هذا الحدث العظيم إلا من فعلك
وفِعل عمالك، حَملتم الناس ما لا يُطيقون وكتمتموني الخبر،
حتى تفاقم الأمر
واضطربتْ البلد، وقال قولته التي – كثيراً ما استشهد بها- : ما فتِق عليَّ في مملكتي
إلا وجدتُ سَبَبَه جورُ العمال)([13]).
كتب والي أرمينية إلى
الرشيد: (إنَّ قوماً صاروا على سبيل النُصح فذكروا ضياعاً بأرمينية قد عفت ودرسَتْ
يرجع منها إلى السلطان مال عظيم، وإني وقفت على المطالبة حتى أعرفَ رأيك فكتب
إليه: قرأتُ هذه الرقعة المذمومة وفهمتها وسوقُ السِعاية بحمد الله في أيامنا
كاسدة وألسِنَة السُعاةِ في أيامنا كليلة خاسئة فإذا قرأت كتابي هذا فاحمل الناس
على قانونك وخذهم بما في ديوانك، فإنّا لم نولِكَ الناحية لتتبعَ الرسومَ العافية،
ولا لإحياءِ الإعلام الدائرة وجَنِّبني وتجنب بيتَ جرير يخاطب الفرزدق:
وكنت إذا حللتَ بدار
قوم
رحلت بخزيةٍ وتركتَ عارا
(وأجْر أمورك على ما
يكسِب الدعاء لنا لا علينا وأعلم أنها مدة تنتهي وأيام تنقضي فإما ذكر جميل وإما
خِزيٌ طويل)([14]).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق