الإحسان
عن ابن عباس (رضي
الله عنهما) قال: (بينما
رسول الله e
بفناء بيته بمكة جالس إذ مرَّ به عثمان بن مظعون فكشَّر([2]) إلى رسول الله e فقال له رسول الله e ألا تجلس؟ قال: بلى، فجلس رسول الله e
مُستقبلهُ فبينما هو يحدثه إذ شخصَ رسول الله e ببصره إلى السماء، ينظر ساعة إلى السماء، فأخذ
يَضَعُ بصَرَه حتى وضَعَه على يمينه في الأرض، فتحَرفَّ رسول الله e
عن جليسه –عن عثمان- إلى حيث وضَعَ بَصَرَه فأخذ ينفضُ رأسه كأنه يستفهمُ ما يُقال
له –وابن مظعون ينظر- فلما قضى حاجَته واسْتفقهَ ما يُقال له شخص بَصَرُ رسول الله
e
إلى السماء كما شخص أولَّ مرة فأتبَعَه بَصَره حتى توارى في السماء، فأقبل على
عثمان بجلسته الأولى، قال: يا محمد! فيما كنتُ أجالسُك وآتِيك ما رأيتك تفعل
كفِعلِك الغداة!([3]) قال: وما الذي رأيتني فعلتُ؟ قال: رأيتك شَخَصَ بَصَرُك إلى السماء
ثم وضَعته حيث وضَعْته عن يمينك فتحَرَّفتَ وتركتني فأخذتَ تنفضُ رأسَك كأنك
تسْتفقِهُ شيئاً يُقال لك! قال: وفطِنتَ لذلك؟ قال عثمان t : نعم، قال رسول الله e : أتاني رسول الله آنفاً وأنت جالس، قال: رسول
الله؟ -أي جبريل- قال: نعم، قال: فما قال لك؟ قال: (( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء
والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون )) ([4])قال
عثمان: فذاك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببتُ محمداً e)([5]).
سُئل
سفيان بن عيينه (رحمه الله) عن
قوله تعالى: (( إن الله يأمر
بالعدل والإحسان ... )) فقال:
العدل: الإنصاف، الإحسان: التفضّل.
قال
الدكتور عماد الدين خليل حفظه الله: الإحسان: (الإبداع الكامل في كل ما يُقدِمه
الإنسان أمام الله)([6]).
يشير إلى العبودية الكاملة في القول والعمل والسلوك، وهذا تفسير لقوله e: (الإحسان أن تعبد الله
كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)([7]).
فإذا
أخضِعتْ النفس لرقابة الله U أتقنتْ كلَّ تكليف يوصلها درجة المحسنين وحققت
المثل العليا في الإسلام، وهذا ما أراده لنا نبينا e بقوله: (إن الله تعالى محسن فأحسنوا)([8]). فالإحسان! غاية درجات التقوى في السلوك والاعتقاد. فقد يُرى في
المواقف الإنسانية.
ذكر التاريخ: (أن جملاً عليه حطب اجتاز في سوق الخرّازين([9]) ببغداد وكان رجل يثقبُ لؤلؤاً وبين يديه نار فوقع طرف القصب على
النار فاشتعلت، فكان الجمل كلما أحّسَّ بوقع النار عدا وتنافضَ الشرار منه في
جانبي الطريق، وتلِفَ ناس وزالت نِعَمٌ كثيرة بذهاب الأموال، فخاطب الخليفة
المعتصم أحمدَ بن أبي دؤاد القاضي بإطلاق خمسة آلاف ألف درهم([10]) فالتفت شيخٌ إلى نفسين في المجلس فقال: قوما، فقاما، فقال: أيها
القاضي! هذان قد ذهب منهما خمسة آلاف ألف درهم... والباقون؟؟؟ فتحير القاضي وقال:
ما ترون في هذا! فقال أولئك النفسان: أما نحن فما نريد شيئاً إلا من الله U
ولا نطلبه إلا من فضله ولكن نجعل هذا المالَ مقسوماً على أهل البضائع اليسيرة
وصغار الناس، فإن رغب أحد من الأكابر في أن يشارك الأصاغِر فأن ذاك إليه وإليك،
فقام خلق كبير وقالوا: أجعله للأصاغِر)([11]).
وجوه الإحسان كثيرة!
إحسان في العفو.
إحسان في الجود.
إحسان في المداينة.
إحسان في البيع والشراء.
إحسان في العلاقات الزوجية.
إحسان حتى الحَيوان.
عن توبة بن نِمر القاضي: (أن رجلاً وامرأته اختصما عنده، فقال: توبة:
مَتعْهَا، فقال: لا أفعل، فسكت عنه لأنه لم يَرضه لازماً له، فاتاه الرجلُ الذي
طلق امرأته في شهادة فقال له توبة: لست قابلاً شهادتك، قال: ولمَ؟ قال: لأنك أبيتَ
أن تكون من المحسنين، وأبيتَ أن تكون من المتقين ولم يقبل شهادته)([12]).
الخطبة الثانية
ذكر محمد كرد علي (رحمه الله) في مذكراته ما يأتي:
(قصصتُ يوماً على شكري القوتلي([14]) قصة رُويَتْ لي عن
جده عبدالغني (رحمه الله) قلت: بلغني أن جدك حُمِل إليه ذات يوم من قريته
إثنا عشر حِملاً من الحطب –وكان يُطِلُّ من طنفِ([15]) غرفته على الشارع،
فشاهد احد الجَمّالة يقطع حِملين ويسوقها أمامه، فأبتعه السيد حتى رآه أناخ
الجَمَلين أمام بيت في محلة النوفرة فبصُر في الدار فرآها خالية من كل شيء يدل على
حياة، فأمسك بيد الجّمال وأبتاع له كيسين من الدقيق وصفيحة زيت، وصفيحة دبس وسلة
أرز وسلة بُن وكلَّ ما يلزم للطعام وقال له ممازحاً: الآن يلزمك الحطب، أما من
قبلُ فماذا تعمل به)([16]).
عن محمد بن زيد عن
أبيه: (أن ابن عمر (رضي الله عنهما) كاتبَ غلاماً له
بأربعين ألفاً، فخرج إلى الكوفة فكان يعمل على حَمولة([17]) حتى إذا جمع خمسة
عشر ألفاً، فجاءه إنسان فقال: أمجنون أنتَ! أنتَ ههنا تعذب نفسك وابن عمر يشتري
الرقيق يميناً وشمالاً ثم يُعقتهم! ارجع إليه فقل عجزتُ، فجاء إليه بصحيفته فقال:
يا أبا عبدالرحمن! قد عَجَزتُ وهذه صحيفتي فامحها، فقال: لا ولكن امحها أنتَ إن
شئت، فمحاها ففاضت عينا عبدالله وقال: اذهب فأنت حر، قال: أصلحك الله! أحسِن إلى
إبنيَّ، قال: هما حُرّان، قال: أصلحك الله! أحسِن إلى أمَّي ولدَّي قال: هما
حُرَّتان)([18]).
روى أحد موالي علي بن
الحسين (زين العابدين) (رضي الله عنهم أجمعين) قال: (كنت غلاماً
لعلي بن الحسين فأرسلني بحاجة فأبطأت عليه، فلما جئته خفقني بالسوط فبكيتُ واشتد
غيظي منه لأنه ما خفق أحداً قبلي قط، وقلت له: الله الله يا عليَّ بن الحسين!
أتستخدمني في حاجة فأقضِها لكَ ثم تضربني؟ فبكى وقال: اذهب إلى مسجد رسول الله e وصَلِّ ركعتين ثم قل: اللهم اغفر لعلي بن
الحسين، فإذا ذهبتَ وفعلتَ فأنت حرٌّ لوجه الله تعالى، فذهبتُ وصليتُ ودعوتُ ولم
أعد إلى داره إلا وأنا حُر).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق