الحقد والسياسة الحسنة للشعوب شيئان لا
يجتمعان
قال تعالى: (( يأيها الذين امنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط لا
يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير
بما تعملون )) ([1]).
عن أبي سعيد الخدري t قال: (جاء أعرابي إلى النبي e
يتقاضاه ديناً كان عليه، فاشتدَّ عليه حتى قال: أحَرّجُ عليك إلا قضيتني، فانتهره
أصحابُه، فقالوا: ويحك! تدري من تكلم؟ فقال: إني أطلب حقي، فقال النبي e:
هلا مع صاحب الحق كنتم؟ ثم أرسل إلى خولة بنتِ قيس فقال لها: (إن كان عندكِ تمرٌ
فاقرضينا حتى يأتينا تمرٌ فنقضِيَك) فقالتْ: نعم، بأبي أنت وأمي يا رسول الله،
فاقرضتهُ فقضى الأعرابي وأطعمه، فقال([2]): أوفيتَ أوفى الله لك، فقال([3]): (أولئك خِيارُ الناس – أي الموَفوّنَ المطيِّبون([4])- إنه لا قدِّسَتْ أمه لا يأخذ الضعيفُ فيها حقه غير مُتعْتع)([5]).
الرفق في سياسة الشعوب يأخذ بها إلى بَرِّ الأمان، والقهر يأخذ بها
إلى دائرة الهوان والحقد، والسياسة الحسنة للشعوب شيئان لا يجتمعان أبداً، وإن وجد
الحقد في سياسة شعبٍ ما فرَّق وحدة الأمة وقادها إلى الهلاك.
وقد أعجبني قول أحدِ الولاة في خطبة له لما استلم الحكم، قال: (يا
أيها الناس. قد كان بيني وبينكم إحَنٌ([6]) فجعلتُ ذلك دَبْرَ([7]) أذني، وتحت قدمي، فمن كان محسناً فليزدْ في إحسانه، ومن كان مسيئاً
فلينزع عن إساءته، إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السِّل من بغضي لم أكشف له قناعاً
ولم أهتكْ له سِتراً حتى يُبْدِيَ صفحته لي)([8]).
وقد (كان بين سعيد بن العاص وقومٌ من أهل المدينة منازعة، فلما صار
والياً عليها تركَ المنازعة وقال: والله، لا أنتصر لنفسي وأنا والٍ عليهم)([9]). كان من دعاء نبينا e: (... رب تقبل توبتي واغسل حوبتي، وأجب دعوتي،
وأهد قلبي، وسدد لساني وثبت حجتي، واسلل([10]) سَخيمة قلبي)([11]).
(قعد المأمون([12]) مرة للمظالم، فقدِّم إليه أصحابهُ الحاجاتِ -وكان
فيهم نصراني من أهل كسْكر([13])- كان قد صاح بالمأمون غير مرة وقعد في طريقه فلما بَصُرَ به المأمون،
أمرَ سِلماً - صاحب الحوائج - أن يبطحه
ويضربه عشرين دِرَّة([14]) وقال لسَلم: قل له: تعود تصيح بي، فقال له سلمٌ ذلك - وهو مبطوح-
فقال الرجل: أعود وأعود وأعود حتى تنظر في حاجتي، فأبلغه سَلم ذلك فقال: مظلوم
مُوطنٌ نفسه على القتل أو قضاء حاجته ثم قال لأبي عباد([15]): أقض حاجة هذا كائنة ما كانت الساعة، فلا أدري مم يعجب الإنسان، أمِن
ملاحظة المأمون، أم من تأميل الرجل، أم من رجوع المأمون عن خطئه فيما صنع وأمره
بقضاء حاجة الرجل)([16]).
قال أحمد بن طولون لابن مهاجر – كاتب بريده- : (... قد صَحَّتْ عندي
نصيحتُك، وأنتَ غير محتاج أن تتحامل على أحد لتزيد عندي، وأنتَ تجني على نفسك بذلك
من الآثام واستيحاش([17]) الناس مني أكثر مما تحوزه لي من الحظ، وأعلم أنك تزرع في قلوب الناس –
بما تأتيه- حقداً لا تفنيه الأيام فاطلب الشكر من الناس، فليس يكرهه إلا ناقصُ
المعرفة جاهل بما يوجب حُسنُ السياسة)([18]).
هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: (( سماعون للكذب اكالون للسحت
فان جاءوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم وان تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وان حكمت فاحكم
بينهم بالقسط ان الله يحب المقسطين ))([19]).
الخطبة الثانية
أرادَ الخليفة
العباسيُّ المأمونُ أن يَنتقِصَ أحدَ بني أميّة([21]) فقال له يحي بنى
أكثم – وزيرُه- : (الرأي عندي أن تدعَ الناس على ما هم عليه، ولا تظهر لهم أنك
تميلُ إلى فِرقةٍ من الفِرَق، فإن ذلك أصلح في السياسة وأحرى في التدبير، فاتبع
المأمون نصيحته)([22]).
(لما بُويع السلطان
علي باي في تونس أتيَ بخريطة مملوءة بمكاتيب لخصمه إسماعيل بن يونس، فأمرَ بحرقِها
بمرأى ومسمع وقال: إن عاقبنا أصحابها فهو شدة وانتقام، وإن سامحناهم جَرّأناهم،
ويبقى في القلب شيء [فحسمُ المادة حرقها قبل الإطلاع عليها] فدانت له بهذا الإغضاءِ([23]) سائرُ القلوب، وهذا
السلوك لا يصدر إلا من غلبَ هواهُ وقليل ما هم)([24]).
جاء جَعْدَة بنُ هبيرة إلى الإمام علي t
فقال: يا أميرَ المؤمنين! يأتيك الرجلان، أنتَ أحبُّ إلى أحدهما من نفسه، أو قال:
من أهله وماله، والأخرُ لو يستطيع أن يذبحك لذبحك، فتقضي لهذا على هذا، قال: فلهَزهُ([25]) عليٌّ t
وقال: [إن هذا شيءٌّ لو كان لي فعلتُ، إنما ذا شيءٌّ لله].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق