11‏/6‏/2013

فتنة اللسان السائب في زمن الفتن


فتنة اللسان السائب([1]) في زمن الفتن

 

قال تعالى: (( يأيها الذين امنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا)) ([2]).

عن عبادة بن الصامت t: (أن رسول الله e خرج ذات يوم على راحلته، وأصحابه معه بين يديه فقال معاذ بن جبل t : يا نبي الله! أتأذنُ لي في أن أتقدم إليك عن طيب نفسٍ؟ قال: نعم، فاقترب معاذ إليه فسارا جميعاً، فقال معاذ: بأبي أنت يا رسول الله، أسأل الله أن يجعلَ يومنا قبل يومك([3])، أرأيتَ إن كان شيء - ولا نرى شيئاً إن شاء الله تعالى- فأيُّ الأعمال نعملها بعدك؟ فصمت رسول الله e فقال([4]): الجهاد في سبيل الله؟ ثم قال رسول الله e: نِعْم الشيءُ الجهاد، والذي بالناس أملكُ([5]) من ذلك، قال: فالصيام والصدقة؟ قال: نعم الشيء الصيام والصدقة، فذكر معاذ كلَّ خير يعمله ابنُ آدم، فقال رسول الله e : وعادَ بالناس خير من ذلك([6]).

قال([7]): فماذا بأبي أنت وأمي عادَ بالناس خيرٌ من ذلك؟ قال: فأشارَ رسول الله e إليه فيه، قال: الصَّمتُ إلا مِنْ خير، قال: وهل نؤاخذ بما تكلمَتْ به ألسِنَتُنا، قال: فضَرَبَ رسولُ الله e فخِذ معاذ ثم قال: يا معاذ! ثكِلتك أمُّك، وهل يَكبُّ الناسَ على مناخرهم في جهنم إلا ما نطقتْ به ألسِنتُهم، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يسكتْ عن شر، قولوا خيراً تغنموا، واسكتوا عن شرٍّ تسْلموا)([8]).

في الظروف العادية يزن عقلاء الناس كلامهم بميزان العقل والشريعة، وفي ظروف الفتن والاضطرابات السياسية والإرهاب الفكري، أحرى بالإنسان أن لا يتكلم بكلمةٍ واحدة   - فيما يجري حوله- قبل أن يزنها وقبل أن تصيرَ كلِمته حسرة عليه ما دام حياً -إن كتِبت له حياة- أو تكونَ سبباً في قطع رأسِه أو رؤوسِ إخوانه من أبناء هذا البلد المنكوب، وقد حَصَلَ - ولا يزال يحصل- فأرخص شيء - في هذا المجتمع- قذف التهم والظن السيئ ونقل ما لا أساسَ له من الأخبار. حَدَثتْ مجاعة في قرطبة في عهد الأمير محمد بن أمية،

فكثرَ فيها أهلُ الفساد فولى الأمير محمدٌ إبراهيمَ بنَ حسنٍ وأذِنَ له في القطع والصلب بلا مؤامرة([9])، فكان إبراهيم يجلس في مجلس نظره في السوق، فإذا أوتي بالفاسد المُفدِح([10]) قال: اكتبوا وصيَته ثم يَصْلبه، فأتاه قوم بفتىً من جيرانهم فشكوا منه إليه تطاولاً - وهم لا يشكون أن سيزجره- وإن أفرط في عقابه بالسجن، فقال لشيخ منهم: ما يستحق عندك؟ فقال -على وجه المبالغة- ما استحق هؤلاء، وأشار إلى المُصّلبين، فقال له إبراهيم بن حسن ولأصاحبه: انصرفوا، ثم قال للفتى: اكتب وصيتَك، فقال الفتى: اتق الله فيَّ فإنه لم يبلغ ذنبي أن أستحِقَّ الصَلب، فصلبه فلما بلغ الشهودَ ذلك أتوه فقالوا: لم يُشهَدْ عندك بذنب يستحقُّ فيه الفتى القتلَ، فقال: أوَلمْ يقلْ قائلكم إنه يستحق ما استحق هؤلاء؟ فقالوا: على المَثل([11])، قال: فإثمُ ذلك في رقابكم([12])). كلمة واحدة من لسانٍ سائب من أحدهم أهدرَتْ دماً.

قال محمد الغزالي (رحمه الله): (ما رأيتُ أذهب بالرشد، وأجلبَ للضُّر، وأقتلَ للتقوى من اللسان السائب، لقد بلوت الكثير من متاعب الناس الخلقيّة والاجتماعية فوجدتها تعود إلى كلام تنقصُه الرَويّة وأحكام ينقصُها السَّداد).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا )) ([13]).

 

الخطبة الثانية

قال العلماء: (كل كلمة لم يتقدمها نظر فالكلام فيها خطر وإن كانت من أسباب الظفر). قال عبدالله بن عُكيْم (رحمه الله): (إني لأرى أن أذكرَ مساوئ رجل – في زمن الفتن- إعانة على دمه). قال عبدالواحد بن زيد للحسن البصري (رحمه الله): (يا أبا سعيد! أخبرني عن رجل لم يشهد فتنة ابن المهلب بن أبي صفرة إلا أنه عاون بلسانه ورضي بقلبه، فقال الحسن البصري (رحمه الله): يا ابن أخي! كم يدٌ عَقرتْ الناقة؟ قلت: يدٌ واحدة، قال: أليس قد أهلك القومَ جميعاً برضاهم وتماليهم)([14]).

عن عِتبان بن مالك t - وهو مِمّن شهد بدراً- قال: كنتُ أصلي لقومي بني سليم، وكان يحول بيني وبينهم وادٍ إذا جاءت الأمطار، فيشُقّ عليَّ اجتيازه قِبَل مسجدهم([15])، فجئتُ رسول الله e فقلتُ له: إني أنكرتُ بصري، وإن الوادي الذي بيني وبين قومي يسيل إذا جاءت الأمطار فيشُقُّ عليَّ اجتيازهُ، فودِدْتُ أنك تأتي فتُصلي في بيتي مكاناً أتخِذه مُصلى، فقال رسول الله e سأفعلُ، فعدا عليَّ رسول الله e وأبو بكر t بعدما اشتدَّ النهار([16])، واستأذن رسول الله e فأذنتُ له، فلم يجلس حتى قال: أين تحِبُ أن أصلي من بيتك؟ فأشرتُ له إلى المكان الذي أحبُّ أن يُصلي فيه، فقام رسول الله e وأبو بكر وصَففنا وراءَه، فصلى ركعتين ثم سلم وسلمنا حين سلم فحبستهُ على خزيرة([17]) تصنعُ له، فسمع أهل الدار([18]) أن رسول الله e في بيتي فثاب([19]) رجال منهم حتى كثر الرجال في البيت، فقال رجل: ما فعل مالك بنُ الدُّخشم لا أراهُ! فقال رجل: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال رسول الله e : لا تقل ذلك، ألا تراه قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله تعالى؟ فقال: الله ورسوله أعلم...)([20]).

 



[1] [الذي لا حفاظ عليه (المتفلت)].
[2] [الأحزاب:70].
[3] [يعني: مصيبة الموت].
[4] [أي: معاذ].
[5] [أي: بقوامه (ما يقوم بذلك كله)].
[6] [أي: قوام ذلك كله وما يعود به من خير].
[7] [أي: معاذ].
[8] [4/286 – 287/ الحاكم/ صحيح وافقه الذهبي – 413/ السلسلة الصحيحة].
[9] [أي: بلا مشاورة (أحكام عرفية)].
[10] [كثر الفساد].
[11] [أي: على سبيل التمثيل أو المبالغة وليس على الحقيقة].
[12] [: أي لم تحسنوا الإيضاح وحسن البيان].
[13] [الإسراء:36].
[14] [ص289/ الزهد للإمام أحمد].
[15] [أي: جهته].
[16] [أي: علا وارتفعت شمسه].
[17] [دقيق يطبخ بشحم].
[18] [أي: المحلة].
[19] [أي: جاؤوا واجتمعوا].
[20] [متفق عليه].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق