التشجيع وصناعة الرجال
من كلام نبينا e : (لا أحدٌ أغيَر من الله ولذلكُ حَرَّم
الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحدٌ أحبَّ إليه المدحُ من الله، ولذلك مَدَح
نفسه)([2]).
قبل أربع سنوات قلتُ: قال علي طنطاوي (رحمه الله): (قرأتُ
مرة أن مجلة إنكليزية كبيرة سألت الأدباءَ عن الأمر الذي يتوقفُ عليه نموُّ العلم
وازدهارُ الآداب، وجَعَلتْ لمن يُحسِنُ الجوابَ جائزة قيّمة، فكانت الجائزة
لكاتبةٍ مشهورة قالت: إنه التشجيع)([3]). أقول: هذا جواب صحيح، وتزداد فاعلية التشجيع إذا تلازم مع الصدق.
قال العِزُّ بن عبدالسلام (رحمه الله): (المدح
المُباح لا يُكثِرَ منه، ولا يُتقاعَدُ عن اليسير منه ترغيباً للممدوح في الإكثار
مما مُدِحَ به، أو تذكيراً له بنعمة الله عليه ليشكرَها بشرط الأمن عليه من الفتنة
.
مدح الله نبيه e بقوله: (( وانك لعلى خلق عظيم )) ([4]). ومدح رسول الله e
أصحابه تشجيعاً لهم وتثبيتاً على خلقهم، مدح أبا بكر وعمر (رضي الله عنهما) فقال:
(هذان السمع والبصر) ([5]) ومدح عثمان t بقوله: (ألا استحي من رجل تستحي منه الملائكة)([6]) ومدح علي بن أبي طالب t بقوله يومَ خيبر: (لأعطِيَنَّ هذه الراية رجلاً
يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه اللهُ ورسولُه)([7]). ومن كلامه: (نِعْمَ الرجل أبو عبيدة، نِعْمَ الرجل معاذ بن جبل).
التشجيع باب من أبواب صناعة الرجال.
تعليق:
1-
تشجيع الأولاد على الكلام لتنموا شخصياتهم وترك عزلهم عن حياة من
حولهم لئلا يبتلوا بمرض التوحد والشعور بالنقص والوسواس القهري.
2-
الابتعاد كلياً عن القسوة في المعاملة من قِبل أهليهم ومعلميهم، لأن
الجريمة ميراث القسوة.
3-
إن الزوجة والأولاد والخدم وضعفاء الناس يؤنسهم التشجيع الجميل
ويُشعرهم بإنسانيتهم ويبعدهم عن الخيانة والخباثة والانتقام.
ذكر الدكتور عبدالأمير السماك في كتابه مذكرات وخواطر طبيب ما يأتي:
(أثناء زيارتي لأحد المعاهد في دولة آسيوية كان هناك رجلٌ مَهيبُ الطلعة [مدير
المعهد] آنست منه عِلماً واسعاً وخبرةً مُتميزة في عالم الطِب، سألتُ عنه مُرافقي:
كم يكون عمر الرجل؟ قال: خَمّنْ؟ قلت: سبعون عاماً، قال: أكثر، قلت: خمسة وسبعون،
قال: أكثر، قلت: وأنا متردد –ثمانون- قال: أربعة وثمانون عاماً، قلت: لمَ لمْ
يتقاعد؟ قال: ما الذي دعاك إلى هذا القول؟ هل فيه عَوَقاً جِسمانياً! أم في
الذاكرة في المعلومات؟ قلتُ: لم أرَ
شيئاً، قال: هذا مُشبَّع بالعلم والمعرفة والتجارب، لديه [كارت] فيما يحتاج إليه
من مال وسكن وتنقلات، ودوامه غيرُ مرهون بوقتٍ مُحدد وله دار أنيقة خصَّصَتها له
الحكومة وقد مضى على مركزه خمسون عاماً)([8]).
قال الدكتور يوسف القرضاوي: (إني لأنكِر على الإسلاميين أنهم لا
يُعطون مُفكريهم وعلماءَهم وأدباءَهم ما يستحقون من تكريم وتقدير ينزلهم منازلهم،
في حين يصنع العلمانيون هالات مُكبرة حول رجالاتهم حتى يجعلوا من الحبة قبة ومن القطِ جملاً،
وصدق فيهم قول الشاعر:
وبقيت في خَلفٍ يُزيّنُ بعضُهم
وفي عالم التربية يصنع التشجيع المعجزات، في ولاية إيوا رأتْ معلمة
أحدَ الأطفال بطيء الدراسة فضلَّ مُهملاً حتى علِمَتْ المعلمة أن سَببَ تخلفِه
ظروفه العائلية المعقدة، وخلافاتُ والديه، وجاء يوم من أيام الاحتفال وقدّم
التلاميذ هديه لمعلمتهم، وجاء هو برُبع زجاجة عطر معها خَرَزَات لا قيمة لها،
فأرادت المعلمة –في هذه المناسبة- أن تشجعه وتراعي شأنَ نفسه، فأخذت الخرزات التي
أتى بها وتزينت بها، وتطيبت بالطيب الذي جاء به، فبدأ الطفل يتقدم حتى صار جراحاً
من أمهر الجراحين في معالجة السرطان([10]).
قال أبو حامد الغزالي (رحمه الله): (إذا
ظهر من الصبي خلق جميل وفعلٌ محمود فإنه ينبغي إن يُكرم عليه ويُجازى بما يفرح به
ويُمدح أمامَ الناس لتشجيعه على الاخلاق
الكريمة).
هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( الم تر كيف ضرب
الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء () تؤتي اكلها كل حين
باذن ربها ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتذكرون )) ([11]).
الخطبة الثانية
قال عمر بن عبدالعزيز (رحمه
الله): (أما بعد!
فأيّما رجلٍ قدِم إلينا في رد مظلمةٍ، أو أمر يصلح الله به خاصاً أو عاماً من أمر
الدين فله مائة دينار إلى ثلاثمِائة بقدر ما يُرى من الحِسبة وبُعْدِ السفر)([12]).
وذكر الدكتور عثمان السامرائي قال: (وجدتُ بعض الموظفين في دولة
خليجية يعملون ليلاً من باب التطوع فكتبتُ ذلك لبعض الصحف فتجاهلتْ النشر وكتبتُ
إلى المسؤولين عنهم طالباً التنويهَ والشكرَ ليتشجع غيرُهم فلم يستجب أحد، فما
السبب؟ هذا حالنا)([13]).
وصدق فينا قول فخر الدين الرازي!
المرءُ ما دام حَياً يُستهان به ويَعْظُم الرزءُ فيه حين يُفتقدُ
(حجَّ الرشيد فأدْخِل على الفضيل بن عياض (رحمه الله)
فوعظه، فلما هم الرشيد بالانصراف قال له: يا أمير المؤمنين! أني أخشى... أن يكون
العلم قد ضاع قِبَلك كما ضاعَ عندنا بالحجاز، قال الرشيد: أجل إنه ما قد قلتَ،
فلما عادَ الرشيد كتب إلى الأمصار ليكتبوا: من التزم الأذان في ألف([14]) من العطاء. ومن جمع القرآن وأقبل على العلم وعمّر مجالس الأدب في ألف
دينار. ومن جمع القرآن وروى الحديث وتفقه في العلماء واستبحر في أربعة آلاف من
العطاء، فما بقي عالم ولا قارئ ولا سبّاق للخيرات ولا حافظُ للحُرُمات في أيام رسول الله e
وأيام الصحابة والخلفاء أكثر منهم في زمن الرشيد وكان الغلام يجمع القرآن في ثمان
سنين، ويستبحرُ في العلم والفِقه ويَروي حديث رسول الله e ويجمع الدواوين ويناظرُ المعلمين وهو ابن إحدى
عَشرة سنة)([15]).
قال أحد الشعراء الإغريق: (لا تضعوا الزهر على قبري، ولا تُشْعِلوا
الأضواء، فكل هذه عبث، ولكنْ أحسنوا إليَّ ما دمتُ حياً).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق