4‏/6‏/2013

البطر وكفران النعم


البطر  وكفران النعم

 

قال تعالى: (( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وءاتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين () وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ))([1]).

من كلام نبينا e : (سيصيبُ أمتي داءُ الأمم، فقالوا: وما داءُ الأمم؟ قال: الاشرُ([2])، والبَطر، والتكاثر، والتناجُشُ([3]) في الدنيا، والتباغضُ، والتحاسد، حتى يكون البَغيُ)([4]).

كلُّ نعمةٍ إحسانٌ من الله على عبيده إن قابلوها بشكر وإحسان كما أحسن الله إليهم زادت وإن كُفِرتْ أورثتْ أصحابَها داءَ الأمم البطر والتناجش في الدنيا، والتباغض والتحاسد حتى يبتلوا بالبغي والاستطالة والظلم.

قال أهل العلم: (لا تدوم لبَطِرٍ نعمة)([5]). وهذا ينطبق على الأمم والشعوب والأفراد.

قال سعيد النورسي (رحمه الله): (مع اشراقة كل صباح يأمر   الله (عز وجل) جيوشاً جرارة من الديدان والحشرات والهوام والضواري والسباع ووحوش البر والبحر لتنظيف الأرض من المخلفات المادية [بلدية] ولسان حالها يقول: نظفنا الأرض من المخلفات المادية ولم يبق إلا المخلفات المعنوية وهي كفر الإنسان بنعمة الله تعالى).

قدّرتْ مصادر اقتصادية ما أنفقته بعض الدول العربية خلال صيف (2008م) على الأناقة والجمال بـ (1.7) مليار دولار، هذا فقط لمستحضرات التجميل. هذا الرقم يفوق ما تنفقه النساء في الدول التي تنتج هذه المستحضرات، بل هذا المبلغ يَسُدُّ جَوْعَه([6]) شعب كامل مثل بنكلادش).

قال الدكتور الداعية عبدالرحمن السميط([7]) (رحمه الله): (إن السبب وراء التحاقه بالفقراء إنه زار في يوم من الأيام أحدَ معسكرات الإغاثة في أفريقيا، ورأى بأم عينيه من ينقب في بيوت النمل بحثاً عما يأكله،

بينما ثرية عربية تبرعت بمليون دولار لتصميم فستان تزيّنهُ (2000) حبة زُمرُّد و (400) ماسة)([8]). إن كفران النِعم لا يُسقِطُ الأفراد وحدَهم إنما يُسقِطُ أمماً بكاملها.

حدث أبو الحسن أحمد بن يوسف (رحمه الله) قال: (لما دخل الديلم([9]) من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي من بغداد وخاف الناس السيفَ هربوا على وجوههم وكانت العذراءُ والمُخَبّأة المُترفة من ذوات النِعم والصّبية والأطفالُ والعجائزُ وسائر الناس يخرجون على وجوههم يتعادَون يريدون الصحراء، وكان ذلك اليوم حاراً فلا يطيقون المشيَ، قال أبو محمد الصُلحي - وهو من رجال مُعِزّ الدولة- : انهزمنا يومئذٍ مع ناصر الدولة نريد الموصل من بينِ يديّ مُعزّ الدولة فرأيت ما لا يُحصى من أهل بغداد قد تلِفوا بالحر والعطش. ونحن نركض هاربين فما شبهته إلا بيوم القيامة، قال: فأخبرني جماعة أنهم شاهدوا امرأة لم يُرَ مثلها في حُسن الثياب والحلي وهي تصيح: أنا ابنة فلان [بيتُ عظيم الجاه في دولة المقتدر] معي جوهر وحلي بألف دينار رحم الله من أخذ مني وسقاني شَرْبة ماء، فما يلتفت إليها أحد حتى خرَّت ميتة وبَقيتْ متكشّفة والثياب عليها والحلي وما يعرض له أحد،

وقد حُزِرَ([10]) ما انتهب من بغداد في ذلك اليوم فكان مقداره عَشَرة آلاف ألف دينار)([11]).

قال المفكر ديموستين: (إن المجال لاستخلاص الدروس من التاريخ متوفر دوماً لأولئك العقلاء من البشر) وقديماً قالوا: (لا يستحق لذة قراءة التاريخ من لم يقرأه للاعتبار).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن ءامن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون ))([12]).

 

الخطبة الثانية

قال تُبَّع بن زيد اليماني يوصي بنيه (أعلموا أنه ما استيديمتْ العاريّة بمثل صيانتها ورعاية حق المُعير فيها، فاحفظوا الله في جوار النِعم كيلا تعود نِقماً، فإنه إذا أوسف انتقم وإذا كوثر قصَم، ولا تبسُطنكم عليه دالة وإذا زللتم فاهربوا منه إليه، فليس عليه مجير ولا منه خفير)([13]).

قال علي عبدالجبار (رحمه الله): (زوّجتْ سِتُّ النساء بنت طولون جارية من جواريها فأنفقت في وليمتها مائة ألف دينار، فلم تلبث الكثيرَ من دهرها حتى رأيتُها في سوق بغداد تتعرض للسؤال فرآها بعض الأغنياء فعرفها فقال لها: أينَ ما كنتِ فيه من النعيم؟ قالْ: كنا نرصد نوائبَ الدهر فجاءتنا وتركت ديارنا بلاقع. قال: فما تشتهين؟ قالت: ملئَ بطني طعاماً. فقال: هذا وكيلي انصرفي إلى المنزل وأمر لها بعشرة آلاف درهم فقالت: يا أخي عليك بمالك بارك الله لك فيه، أما إنه قد كان عندنا أكثرُ من ذلك فلم يبق)([14]).

رحم الله من قال:

هي الأحوال إن نُبدِلْ نُبَدَّل    على أعمالِنا يُرْسى الجزاءُ

حَكى علامة حضرموت ومفتيها عبدالرحمن بن عبيد الله السقاف (رحمه الله) قال: (لما زرتُ قيدون في سنة 1329هـ دخل علي جماعة من آل العمودي في غرر مليحة ووجوه صبيحة، وقامات مديدة، وأجسام شديدة، وأفكار بعيدة، ولما سألتهم عن حالهم... ذكروا ما كان لهم من بسطة وصولة الملك في سائر البلاد ثم ضرب على أيديهم الدهر واسترد ما أعطتهم الأيام وما زالوا يشرحون لي الحال ويُكثِرون من التألم ويلتمسون مني الدعاء حتى اغرورقت عيني وتنَدّي خَدَّي، ولما رآني أحدُهم بتلك الرِقة قال: لا تحزن فقد كنا والله أهلاً لما نزل بنا، وما أصابنا إنما هو بما كسبت أيدينا فقد ولانا الله ولاية لم نحسن سياستها بل أبدلنا العدل جوراً، والحِلم جَهْلاً، ولم نشكر النعمة فسُلبتْ عنا)([15]).



[1] [القصص:76_77].
[2] [الاشَر: البَطر].
[3] [البغي: الاستطالة والظلم].
[4] [2614/ السلسلة الصحيحة].
[5] [من كلام مصطفى السباعي].
[6] [الفقر والحاجة].
[7] [رئيس لجنة العلوم المباشر في أفريقيا].
[8] [ص15/ المجلة العربية/ عدد: 347 سنة 30/ 1426 هـ - 2006م].
[9] [من سكان شمال بلاد قزوين الجبلية].
[10] [قدِّر وخمِنّ].
[11] [ص349/ جـ6/ المنتظم في تاريخ الملوك والأمم].
[12] [القصص:80].
[13] [ص140/ جمهرة وصايا العرب].
[14] [ص17/ عجائب الفِكر وذخائر العِبر/ محمد خير].
[15] [ص625 – 626/ العود الهندي].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق