عــواقـــب الـظـلــم
من كلام نبينا e : (ما من ذنب أجدرُ أن يُعجل الله لصاحبه
العقوبة في الدنيا مع ما يَدِّخر له في الآخرة من البَغي وقطيعة الرحم)([2]).
في التوراة: (من يظلم يَخْرَب بيته) وفي القرآن تصديق لذلك: (( فتلك
بيوتهم لما خاوية بما ظلموا ... ))([3]). وفي التوراة
أيضاً:: (كما تدين تدان). ومن كلام عيسى u: (بالمكيال الذي تكيلون يُكال لكم وتزدادون).
وصدق من قال: من سل سيف البغي أغمِدَ فيه ومن أسس أساسَ السوء أَّسسَه على نفسه).
حَدَّث الإمام الزهري (رحمه الله) – وقد
خرج من عندِ هشام بن عبدالملك- فقال: (ما رأيتُ كاليوم ولا سمعتُ كأربع كلمات تكلم
بهن رجل عند هشام بن عبدالملك، دخل عليه فقال: [يا أمير المؤمنين!
احفظ عني أربعَ كلماتٍ فيهنَّ صلاحُ ملكك واستقامة رعيتك. قال: ما
هنَّ؟ قال: لا تعِدْ عِدَة لا تثِق من نفسك بانجازها، ولا يغرَّنك المرتقى – وإنا
كان سهلاً- إذا كان المنحَدَر صعباً، وأعلم أن للإعمال جزاءً فاتق العواقب، وأن
للأمور بَغتات([4]) فكن على حذر] قال عيسى بن دأب: فحدثت المهدي بهذا الحديث -وفي يده
لقمة قد رفعها إلى فيه([5])- ، فأمسكها وقال: ويحك أعِدْ عليَّ، فقلتُ: يا أمير المؤمنين: أسِغ
لقمتك. قال: حديثك أحبُّ إليَّ)([6]).
كان أبو جعفر محمد بن عبدالملك المعروف -بابن الزيات- وزيرُ المعتصم،
وكان قد اتخذ تنوراً من حديد وأطرافُ مساميره إلى داخل -وذلك أيامَ وزارته- وكان
يعذب فيه المصادَرين وأربابَ الدواوين المطلوبين بالأموال، فكيف ما انقلب واحد
منهم أو تحرك من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه فيجدون لذلك أشدَّ الألم،
ولم يسبق أحد إلى هذه العقوبة وكان شديد القسوة إذا قالَ له أحدٌ منهم: أيها
الوزير ارحمني، يقول له: الرحمة خوَرٌ في الطبيعة([7])،
فلما اعتقله المتوكل أمر بإدخاله في التنور فقال: يا أمير المؤمنين
ارحمني، فقال له المتوكل: الرحمة خوَرٌ في الطبيعة، كما كان يقول للناس، وقد وقع
يوماً على رقعةِ رجل توسّل إليه بقرب الجوار منه [الجوار للحيطان والتعطف للنسوان]
ولما وضعه المتوكل في التنور قال له: أجرينا فيك حكمكَ للناس)([8]). قال أبو عيينة حُصن الغزاري: (إياكم وفضحاتِ البغي)([9]). ومن كلام خالد القسري بن أبي بردة: (لا يحملنكم فضل المقدرة على شدة
السطوة، فإن الله مَع الذين اتقوا والذين هم محسنون).
في عام 387 هـ أمَرَ الحاكم بأمر الله الفاطمي بقتل [عيسى بن نسطورس]
فقال عيسى وهو ماضٍ ليُقتل: (كلُّ شيء كنتُ أحسَبُه إلا موتَ العزيز الفاطمي،
ولكنَّ الله لا يظلم أحداً، والله إني لأذكرُ وقد ألقيتُ في سنة 386 هـ أوراقاً
على بعض المتهمين بالنهب -وكان في بعضها القتلُ وفي بعضها الضربُ- فأخِذ شابٌّ ممن
كان فيهم رقعة فيها القتلُ، فأمرتُ بقتله، فصاحت أمُّه ولطمت وجهها وحلفتْ أنها
وابنها ما كانا ليلة النهبِ وإنما وَرَدا مِصْرَ بعد النهب بثلاثة أيام، فلم التفت
إليها وأمرتُ بضرب عنقه فقالت أمُّه:
إن كنت قاتله فاجعله آخِرَ من يُقتل لأتمتع به ساعة، فأمرتُ به فجعِل
أوَّلَ من ضُرب، فلطمت بدمه وجهها وسبقتني إلى القصر -وهي منبوشة الشعر ذاهلة
العقل- فلما وافيتُ قالت لي: قتلته كذلك يقتلك الله، فأمرتُ بها فضربت حتى سقطت
على الأرض، ثم ترون الآمن ما ترون)([10]).
قال تعالى: (( وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن
من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين ))([11]).
الخطبة الثانية
قال أبو الحسن علي بن عبد الأعلى (رحمه الله): (كنا
بحضرة أبي الحسن علي بن الفرات [الوزير] – أيام المقتدر بالله- إذ رفع رأسَه وقال:
أريدُ رجلاً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر يُطيعني حق الطاعة، فأنفِذه في مُهمٍّ
لي فإذا بلغ فيه ما أرسمه له أحسنتُ إليه إحساناً يظهر عليه، فأمسك مَنْ حَضر ووثب
رجل يكنى بأبي منصور فقال: أنا أيها الوزير، أفعلُ وأزيدُ، قالَ: كم ترتزق؟ قال:
أرتزق مائة وعشرين دينار، قال: وقعوا له بالضِعف، وسَلْ حوائجك، فسأله أشياء أجابه
إليها فلما فرَغ قال: خذ توقيعي وامض إلى ديوان الخراج وطالبْ بإخراج ما على محمد
بن جعفر بن الحجاج، وبلغه أن يُستخرجَ جميعه ولا تسمعْ له حجة قال: -فأحضره وشتمه
وافترى عليه- وابن الحجاج يستعطِفه ثم أمر بتجريده وإيقاع المكروه به وهو -في كل ذلك يقول (يكفي الله)- ثم أمر بنصب
دَقلْ([12]) ورفعه إليها، وقعد تحتَ الدَقل وغضِب من غير غضب اعتماداً لأن يبلغ ابن
الفرات فعله، فلما ضجر قال: أرسلوا ابن الفاعلة -وهم يعالجون حبال البكرة سقط ابن الحجاج
على عنق أبي منصور- وكان بديناً سميناً فدّقها فحُمِلَ أبو منصور إلى منزله فمات
في الطريق، فعَجبَ من حضر مما رأى وكتب صاحب الخبر بالصورة إلى ابن الفرات فورد
عليه منها أعظم مورد وقال: قلما ظفر أحد ببغي فلم يبطر، وأطلق ابن الحجاج وكان
الناس يعجبون من قول أبن الفرات: أريدُ رجلاً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر)([13]). ودارت الأيام و:(قبض المقتدر على ابن الفرات وعلى ابنه وسُلم إلى
الوزير عبيدِ الله بن محمد ثم طولِبَا بأموال فما أذعنا بشيء فقتلهما نازوك وبعث
برأسيهما إلى المقتدر في سَفط وغرَّق جَسَديهما)([14]).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق