8‏/6‏/2013

بطانة الرجل


بطانة الرجل

 

قال تعالى: (( يأيها الذين امنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ... )) ([1]).

ليس شيءٌ أنفع لرجل - بعد الإيمان بالله- من بطانةٍ صالحة، وليس شيءٌ أضَرَّ عليه من بطانة سوء، بَدأ بالزوجة وانتهاءاً بما حول مراكز الحكم.

لما ولِيَ عمر بن عبدالعزيز (رحمه الله) صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (يا أيها ى الناس: مَنْ صحبنا فليصْحَبْنا بخمسْ وإلا فلا يَقرْبنا!

يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويُعيننا على الخير بجُهده، ويدلنا على الخير ما لا نهتدي، ولا يغتابَنَّ عندنا الرعية، ولا يعترض فيما لا يعنيه، فانقشع الشعراء والخطباء، وثبت الفقهاء والزهاد وقالوا: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يفارق فعله قوله)([2]).

روى تاريخ السيرة النبوية: (... أن النبي e وأبو بكر وعمر (رضي الله عنهما) انطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التَيْهان الأنصاري t - وكان رجلاً كثير النخل والشاءِ- فلم يجدوه فقالوا لامرأته: أين صاحبك؟ فقالت: انطلق يستفدي لنا الماء، فلم يلبثوا أنْ جاء أبو الهيثم بقربة يزعبها فوضعها ثم جاء يلتزم النبي e ويُفدّيه بأبيه وأمه، ثم اطلق بهم إلى صديقته فيسط لهم بساطاً ثم انطلق إلى نخلةٍ فجاء بقنوٍ([3]) فوضعه... فأكلوا وشربوا من ذلك الماء، فانطلق أبو الهيثم فذبح لهم عناقاً([4]) أو جدْيَاً فأكلوا، فقال النبي e : ألك خادم؟ قال: لا، قال: فإذا أتانا سَبيٌ([5]) فأتنا. فأتي النبي e برأسَيْن، فقال النبي e : اختر منهما، فقال: يا نبي الله! اختر لي! فقال النبي e: إن المستشار مؤتمن، خذا هذا فإني رأيته يصلي واستوصي به معروفاً، فانطلق أبو الهيثم إلى امرأته فأخبرها بقول رسول الله e، فقالت امرأته: ما أنت ببالغ ما قال فيه النبي e إلا أن تعتِقهُ قال فهو عتيق، فقال النبي e: إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان، بطانة([6]) تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً ومن يوق بطانة السوء فقد وُقي)([7]).

قال المأمون لأحد عماله: (ليكن أكرم دخلائِك وخاصتك عليك مَنْ إذا رأى عيباً فيك لم تمنعهُ هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سِرٍّ وأعلامك ما فيه من النقص فإن أولئك أنصحُ أوليائك ومناصريك)([8]).

كان محمد بن حميد الطوسي([9]) على غدائه يوماً مع جلسائه وإذا بصيحة عظيمة على باب داره، فرفع رأسه وقال لبعض غلمانه: ما هذه الصيحة؟ فخرج الغلام ثم عاد وقال: إن فلاناً أخِذ وأوثق بالحديد والغلمان ينتظرون أمركَ فيه، فأشارَ كل واحدٍ من جلسائه عليه بقتله – وهو ساكت- ثم قال: يا غلام: فك وَثاقه، ويدخل إلينا مكرماً، فأدخِل عليه رجل لا دم فيه، فلما رآه هَشَّ إليه، وأمر برَدِّه مكرَّمَاً ولم يعاتبه على جرم ولا جنايةٍ، ثم ألتفت إلى جلسائه وقال لهم: إن أفضل الأصحاب من حضَّ الصاحِب على المكارم، ونهاه عن ارتكاب المآثم، وحَسَّ له أن يجازيَ الإحسان بضعفِه والإساءة بصَفحهِ... إنه ينبغي لمن حضر مجالس الملوك أن يمسك إلا عن قولٍ سديد وأمر رشيد فإن ذلك أدومُ للنعمة وأجمعُ للألفة، إن الله تعالى يقول: (( يأيها الذين امنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا () يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ))([10]).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى : (( وقضينا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين )) ([11]).

الخطبة الثانية

ويدخل في هذا الباب موضوع الحجابة([12])، فمَعَرَّة([13]) الحاجب ((السكرتير حالياً)) تصل إلى المحجوب، والعلماء يقولون: (الرسولُ صورةُ المُرسِل، والحاجب صورةُ المحجوب).

 

ذكر التاريخ: (أنَّ ابن هبيرة –الوزير- لما وَجَّه مُسلمَ بنَ سعيد إلى خراسان قال له: أوصيك بثلاثة! حاجبك فإنه وَجهكُ الذي تلقى به الناس، إن أحسن فأنت المُحسِن، وإن أساء فأنت المسيء، وصاحبِ شرطتك فأنه صوتُك وسيفُك، وأن تختار من كل كورةٍ رجلاً لعملك فإن أصبتَ فهو الذي أردتَ وإن أخطأت فهم المُخطئون وأنت المُصيب)([14]).

قيل لأبي عبدالله وزير المهدي: (لم لا تستبدلُ حاجبك فقد شاخَ وهَرم؟ قال: فمن يعرف إخواني القدماء؟)([15]).

قال طاهر بن الحسين: (أما توليتي عيسى الكاتب الحجابة فإني رجل خراساني الدار عراقي الأدب، فأردتُ ان يكون بيني وبين الناس من يفهمني ويفهم عني ويخبرني عن الوارد إذا ورد، والداخل عليَّ إذا دخل)([16]).

لقد كان الحاجب في الدولة السلجوقية يعتبرُ قِمة الهرم العسكري، وأعلى المناصب القيادية بعد السلطان والوزير فكان في المرتبة الثالثة في مناصب الدولة)([17]).



[1] [آل عمران: ١١٨].
[2] [ص143/ الوصايا الخالدة/ عبدالبديع – ص185/ وفقيد آخر/ حيدر قفة].
[3] [عذق النخل].
[4] [أنثى من أولاد المعز قبل استكمالها السنة].
[5] [السبي هنا: الأسرى].
[6] [بطانة الرجل: خاصته الذين يستبطنون أمره].
[7] [2369/ صحيح الترمذي – 1641/ السلسلة الصحيحة – 113/ مختصر الشمائل].
[8] [ص156/ الإدارة والسياسة في عز العرب/ محمد كرد علي].
[9] [أحد قواد المأمون العباسي].
[10] [الأحزاب:70_71].
[11] [فصلت:25].
[12] [المساءة والأمر القبيح والعيب].
[13] [مهنة الحاجب، والحاجب البواب أو السكرتير الذي بأمره الدخول والخروج].
[14] [ص276/ حدائق الأزهار/ لابن عاصم الغرناطي].
[15] [ص97/ لطائف الظرفاء/ الثعالبي].
[16] [ص156/ تاريخ بغداد/ ابن طيغور].
[17] [ص259/ دولة السلاجقة/ الصلابي].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق