الهدية وسيلة محبة وليست وسيلة تجارية
فتح هذا الدين كل وسائل المحبة والألفة بين الناس، وأمر بها وأوجبها
عليهم، ومن هذه الوسائل: [ الهدية]، قال الجاحظ: (... ما أزيلتْ السخائم([3]) ولا اسْتدْفِعتْ المغارم بمثل الهدايا).
وقال أبو محمد عبدالله الساماني([4]): (الهدية ترد بلاء الدنيا، والصدقة ترد بلاء الآخرة) بل قال علي بن
الجهم: (الهدية السحرُ الأكبر)([5]). وقد ( كان رسول الله e يُهدي ويقبل الهدية ويثيبُ عليها([6])).
والأصل في الهدية ألا يلاحظ فيها معنى انتظار المكافأة،وإلا أصبحتْ
كالدَّين، والخير فيها ألا يلاحظ فيها أيضاً معنى العِوَض وإلا كانت لوناً من
ألوان المُعاوضة ومتى كان كذلك فسَدَ معناها الذي يحقق المعنى الشرعيَّ، وخرَجَ من
باب الهدايا إلى باب البياعات، ومن صلة مَوَدّة إلى معاوضات تجارية، وليس هذا
مطلوبَ الشارع الحكيم. قال العلماء: (الهدية عطية عن طيب نفس بلا عوض). قال يحيى
بن خالد: (ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها: الكتاب يدل على مقدار عقل كاتبه،
والرسول على مقدار عقل مرسله، والهدية على مقدار عقل مهديها)([7]). وصدق قتادة t حين قال: (إنك لتعرف سُخْفَ الرجل من هديته).
حكى أحدهم قال: (رَقدتُ في المستشفى سَبعة أيام، وقبلَ أن أغادرها كان
عليَّ أن أقومَ بعمليتين: عمليةِ دفع الحساب، وعملية التصرف بـ (40) طبق و (30) سيت زهور ولست أدري
لماذا لا يُوفر الزوار على أنفسهم ثمن هداياهم ويكفيهم مجردُ إظهار مشاعرهم
وتمنياتهم الطيبة، وإذا كان لا بد من الهدية، فلماذا لا يدفعون ثمن الهدية؟ لو
أنهم فعلوا هذا معي لخرجتُ من العملية بما لا يقِل عن 200 جنيه كنتُ أدفعُ منها
تكاليف العملية في المستشفى)([8]).
قال علي طنطاوي (رحمه
الله): (أعرف رجلاً تزوجَ
فأهديَ إليه في يوم زفافه من أصدقائه وأقربائه مائة وسِتَ عَشْرَة باقة زهر، فحار
أينَ يضُعها! فكان مصيرُها المزابل)([9]).
وقد أشارت السنة النبوية إلى كراهة هدايا المعاوضات والمنافع المادية،
فقد: (أهدى رجل من بني فزارة إلى النبي ناقة من إبله، فعوَّضه منها بعض العِوض
فتسخطه، قال الراوي([10]): فسمعت رسول الله e على المنبر يقول: إن رجالاً من العرب يُهدي
أحدهم الهدية فأعوضُه منها بقدرِ ما عندي، ثم يتسخطه فيظلُّ يتسخط فيه عليَّ، وأيمْ
الله لا أقبل بعد مقامي هذا من رجل العرب هدية إلا من قرشيٍّ أو أنصاري أو ثقفيٍّ
أو دوسيٍّ)([11]).
المثل الفرنسي يقول: (يُهدِي المرءُ بيضة ليُهدىَ إليه بقرة).
قلت: صدق حسان بن ثابت t:
قال العلماء: (الهدية في ملائمتها وليس في قيمتها المادية). لقوله e:
(لو أهدي إلي كُراع لقبلتُ)([13]).
قال حيدر قفه([14]) : (يبدو لي أنّ عِلة
البغضاء التي تؤول إليها حالة التهادي كانت في الطمع وبالتالي المحاسبة عند حلول
المناسبة، ولو أننا فهمنا معنى (تهادُوا تحابوا) على أنها الهدايا في غير
المناسبات والتي لا تتطلب المعاملة بالمثل عند حلول المناسبة ذاتِها عند الطرف
الآخر والتي تستدعي السِداد لكان أفضلَ وللمودةِ أدْوَمَ)([15]). وسأضرب لذلك نماذج:
1- رجل يملك مزرعة فلما
حان قطافُ الثمر تذكر أصدقاءه وأصحابه.
2- رجل آخر وزع التقاويم
ودفاتر المذكرات.
3- رجل زار معرضاً
فاستحسن كتاباً فاشترى نُسختين واحدة له وأخرى لصديق له يعلم أن هذا الكتاب
يَسُرُّه وينفعه.
4- رجل جاءته هدية كبيرة
من بعيد فتقاسهما مع بعض أصحابه.
قلتُ: صَدَقَ من قال: (لا يشكرَنك الأعمى لمرآةٍ تهديه إياها).
الخطبة الثانية
قال العلماء: الهدية
الطيبة إما تجلب محبة، أو تدفع بغضاء.
حكى الدكتور عائض
القرني قال: (كان هناك صِحافي متخصص في نقدي والسخرية مني، فهممتُ أن أسلخه
بمقالة، لكن الله سَلم وشجّعني بعضهم بالرد عليه، لكن اللهَ لطف، ثم بدا لي أن
أتجاهلَ وأتغافلَ، وكأني ما سمعتُ ولا رأيتُ فأهديتُ بعض كتبي إليه مع بعض عباراتِ
الثناء، فلما وصَلتْ الهدية تهلل واستبشر، ووالله ما مَرَّ وقت قصير إلا وهو
يمدحني ويُثني علي في نفس الصحف التي سبني فيها، وصدق الله عز وجل: (( ... ادفع
بالتي هي احسن ... )) ([17]))([18]).
ويستحب في الهدية أن
لا يكون فيها كلفة على الطرف الآخر.. ويُبتعد عن الهدايا التي لا لزوم ولا فائدة
فيها للطرف الآخر.. وأحسن الهدايا ما يؤكل أو يُشرب أو يُستفاد منه وما مثل الكتب
القيمة، وقد أعجبني ما حكاه أبو الفوارس الدمشقي: (كنتُ يوماً عند السلطان صلاح
الدين الأيوبي فحضر رسول صاحب المدينة على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم، ومعه
هدايا، فلما جلس أخرج مروحة بيضاء وقال: الشريف يخدم مولانا السلطان ويقول: هذه
المروحة من خوص النخل الذي في مسجد الرسول e فقبلها السلطان وقال لرسول صاحب المدينة: جزى
اللهُ موفدَك خيراً)([19]).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق