الاعتبار
قال تعالى: (( قل اللهم مالك
الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك
الخير انك على كل شيء قدير ))([1]).
حين رأى المسلمون إيوانَ كسرى - رأوا أعظمَ اعتبار- فقد تذكروا وعد
نبينا e
فنادى ضرار بن الخطاب t: الله أكبر هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون،
وفتحوا المدينة ونزل سَعدٌ t ([3]) القصرَ الأبيضَ واتخذه مُصلى وقرأ في صلاته: قال تعالى: (( كم تركوا
من جنات وعيون () وزروع ومقام كريم () ونعمة كانوا فيها فاكهين () كذلك وأورثناها
قوما آخرين () فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين )) ([4]).
العقلاء وحدهم من يستفيد من مواقع الاعتبار، قال محمد بن يزيد بن
سنان: حدثني جدي سنان (رحمه
الله): (خرجنا مع علي بن
أبي طالب t
حين توجه إلى الشام ولما وصلنا إلى المدائن قال جرير بن سَهْم التميمي:
عَفتْ الرياح على ربوع ديارهم
فكأنما كانوا على ميعاد
فقال له عليُّ بن أبي طالب t: كيف قلتَ يا أخا بني تميم؟ فردَّدَ عليه البيت([5]). قال: أفلا قلتَ: قال تعالى: (( كم تركوا من جنات وعيون () وزروع ومقام كريم () ونعمة
كانوا فيها فاكهين () كذلك وأورثناها قوما آخرين () فما بكت عليهم السماء والأرض
وما كانوا منظرين )) ([6]). (أي أخي! إن هؤلاء كانوا وارثين فأصبحوا موروثين، إن هؤلاء كفروا
النعم فحَلتْ بهم النِقم. ثم قال: إياكم وكفر النعم - قالها ثلاثاً- فتحِلَّ بكم
النقم).
قالوا: بينما حذيفة
بن اليمان وسلمان الفارسي يتذاكران أعاجيبَ الزمان وتغيّر الأيام. وهما عرصة إيوان
كسرى وكان أعرابي من غامد يرعى شويهات له نهاراً، فإذا كان الليل صَيّرهن إلى داخل
العرْصة وفي العَرْصَة سرير رخام كان كسرى ربما جلس فقال سلمان t:
ومن أعجب ما تذاكرنا صعودُ غنيمات الغامدي على سرير كسرى)
قلت: هذا ذكرني بما ذكره التاريخ أنه: (لما قتلَ عامرُ ابن إسماعيل
الحارثي مروانَ بن محمد ونزل في داره، وقعَد على فرشِهِ، دخلت عليه عبْدَهُ بنتُ
مروان فقال: يا عامر إن دهراً أنزل مروان عن فرشِه وأقعدك عليه لمُبلغ في عظتِكَ
إن عَقلتَ)
ولله در القائل:
عزَّ الضراءُ وأعوزّ
الإلمام
واسترجعت ما أعطت الأيام
قال أهل الحكمة: المفروحُ به هو المحزون عليه ومن بلغ غاية ما يحب،
فليتوقع غاية ما يكره.
قال محمد مهدي البصير (رحمه الله): (رأيت
ألمانيا سيدة العالم مرتين ورأيتها تحت أقدام الغالبين مرتين، أفأعجب بعد هذا من
حوادث الزمن)([7]).
قال عصام العطار (رحمه الله): (رافقتُ صحائِف
التاريخ العجيبة دُولاً وامبراطوريات ٍ في أوج عظمتها، وأنظر الآن فلا أرى إلا
بقايا قليلة أو آثاراً في بطون الأرض أو إبهاء المتاحف. كم إنسان يا تُرى عمل في
تشييد تلك الصروح كم رجل أو امرأةٍ أو شيخ أو طفل مات في الدفاع عنها.
لقد انهدم ما بنوا
ولم يبق إلا الموقف النبيل أو الحقير أو العمل الصالح والطالح والثواب والعقاب عند
الله هو الأخلد والأهم أفنعتبر النتائج القريبة وننسى الله ويوم الحساب والبضاعة
هناك السراب).
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يُغرُّ بطول العيش إنسان
هي
الأمور كما شاهدتُها دُوَل
من سّرَّه زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد
ولا
يدوم على حال لها شان
ويُنتضى كلُّ سيفٍ للفناء ولو
هذا وان خير الكلام
كلام رب العالمين: قال تعالى: (( فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على
عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد () أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو
آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ))([13]).
الخطبة الثانية
قال محمود الملاح (رحمه الله): (لو اعتبر أهل
التاريخ لجَمَدَ التاريخ) قلتُ: لقد صدق، ما أقل من يعتبرُ بتاريخ الأمم وما جرى
عليها من المَحِن. ذكر التاريخ: (أن المنصور بن أبي عامر (رحمه الله) كان في قصره
[بالزاهرة]([14]) فتأمل محاسِنَه،
فانحدرت دموعهُ وقال: ويهاً لك يا زاهرة، ليت شِعري من الخائن الذي يكون خرابُكِ
على يديه من قريب، فقال له بعض خاصته: ما هذا الكلام الذي لا يليق بمثله شغلُ
البال به؟ فقال: والله لترون ما قلتُ وكأني بمحاسن الزاهرة قد مُحيتْ وبرسومها قد
غيِّرتْ وبخزائنها قد نهِبتْ،
وبساحاتها قد أضرمَت
بنار الفتنة فلم يكن إلا قليلاً حتى انقرضتْ دولة آل عامر، ولم يبق منهم آمِر وصح
فيهم قول القائل:
كأنْ لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يَسْمُر بمكة سامر
وقد حَذر الوزير لسان
الدين ابن الخطيب ابنه بسقوط الأندلس قبل أكثر من قرن، وكان ماوجهه من وصاياه
لأولاده أن: (نهاهم عن اقتناء العقارات بالأندلس، وقال: مَنْ رزق منك مالاً بهذا
البلد القلق المهاد الذي لا يصلح لغير الجهاد فلا يستهلكه في العقار فيصبحَ عُرضة
للمذلةِ والاحتقار ومعوقاً عن الانتقال أمام النوَب الثقال، وإذا كان رزق العبد
على المولى فالإجمال في الطلب أولى)([15]). وقد قِيل لبعض
الحكماء: مَنْ السعيد؟ قال: من اعتبر بأمْسِهِ واستظهر لنفسه).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق