استقامة الحكام سبيل إلى استقامة
المحكومين
قال أبو ذر t
: (كنتُ مخاصِرَ([2]) النبي e
يوماً إلى منزله فسمعته يقول: غيرُ الدجال أخوف على أمتي من الدجال، فلما خشيت أن
يدخلَ، قلتُ: يا رسول الله! أي شيء أخوف على أمتك من الدجال؟ قال: الأئمة المضلين([3]) - وفي رواية- إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)([4]).
خارج دائرة السياسة والسياسيين عاش العرب والكرد والسُنة والشيعة
وباقي الملل في هذا البلد وَفق ما يملي عليهم دينُهم وعقلائهم، فلما فرَضَ العالم
الغربّيُ فروضَه السياسية على مراكز الحُكم مزقوا وحدة هذا البلد بالأحزاب
والقوميات والمذاهب الدينية والعرقية والديمقراطية المزيفة فأوجدوا مجتمعَ
الكراهية وسحقوا ركائز الألفة بين مكونات هذا البلد الجريح.
عن حّيّة بنتِ أبي حّيّة (رحمه الله) قالت:
(دخل عليَّ رجل بالظهيرة، قلتُ: ما حاجتك يا عبدَ الله؟ قال: أقبلتُ أنا وصاحب لي
في بُغاءِ إبل لي، فانطلق صاحبي يبغي ودخلتُ في الظِل استظل وأشربُ من الشراب.
قالت: فقمتُ إلى لبيْنةٍ لنا؟ حامضة وربما قالت ضيخةٍ([5]) حامضة، فسقيته منها ثم توسّمْتُه([6]) وقلتُ: يا عبدالله: من أنتَ؟ قال: أبو بكر t
قلتُ: أبو بكر صاحبُ رسول الله e ؟ قال: نعم، فذكرتُ له غزونا خثعم في الجاهلية،
وغزو بعضا بعضاً وما جاء الله تعالى به من الألفةِ هكذا - وشبك الراوي أصابعه-
فقلت: يا عبدالله! متى أمرُ الناس هكذا؟ قال: ما استقامت الأئِمة)([7]). لذلك قال الفضيل بن عياض (رحمه الله): (لو
كانت لي دعوة مستجابة لما جعلتها إلا في إمام([8]) لأن الإمام إذا صلح صلح العبادُ والبلاد). فقام عبدالله بن المبارك (رحمه الله) وقبّلَ
رأسه وقال: يا معلم الخير! من يستطيع أن يقولَ مثل ذلك، ومن يُحسنُ هذا غيرُك؟).
وهذا سفيان الثوري يقول لأبي جعفر المنصور الخليفة العباسيِّ (إني
لأعلمُ رجلاً إن استقام استقامت الرعية! قال: من هو؟ قال: أنتَ). هذا المعنى قاله
حكيم الصين كونفوشيوس، قال: (لم يحدث قط([9]) أنْ وجد حاكم يحب الخير، وتعجزُ رعيته عن حب الاستقامة، ولا حدث قطُّ
أن أحبَّ شعبٌ الاستقامة إلا ودُبِّرتْ أمور الدولة بنجاح). ومتى ما شعرت الأمة
باستقامة أئمتها وحُسن نيتهم عليها استقامت وأدت ما كلفتْ به واستحيت من المخالفة.
وفي هذا الظرف العصيب لا بد لي أن أذكركم – وأنتم تطالبون ببعض حقوقكم- أنت تكون طلباتُكم منضبطة بضوابط الشرع بعيدة
عن الكلام الفاحش، والإشارات البذيئة والتحريض على الشر، فإن ذلك يولد أخطرَ
العَنَتِ- وهو العنتُ السياسي- وأخطره ما كان في مراكز الحكم، وهذا باب إذا فتح
فلا تسأل عن هلكة الأمة، وهذه سوريا أمام العيون، حمى الله جل وعلا شعبها من كيد
الكائدين. وقد ذكرت قبل ثلاثة أشهر: كلاماً للإمام علي بن أبي طالب t
واعظاً أصحابه: (... إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين ولكنكم لو وصفتم أعمالهم،
وذكرتم حالهم كان أصوبَ في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم اللهم
احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم). ورحم الله الحسن البصري القائل: (والله
لو أن الناس إذا ابتلوا([10]) صبروا ما لبثوا أن يرفع الله ذلك عنهم وذلك أنهم يفزعون إلى السيف
فيوكلون إليه،
والله ما جاء بيوم خير قط ثم تلا: (( ... وتمت كلمة ربك الحسنى على
بني اسرائيل بما صبروا ))([11]))([12]). هذا وان خير الكلام
كلام رب العالمين: قال تعاى: (( ... وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا عمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا واليه المصير )) ([13]).
الخطبة الثانية
عن شريح بن عبيد الحضرمي (رحمه الله)
قال: ((جلد عياض بن غَنْم صاحبَ([14]) دارين([15])t حين فتحت فأغلظ له هشام بن
حكيم القولَ حتى غضب عياض ثم مكث ليالي فأتاه هشام فاعتذر إليه ثم قال هشام لعياض:
ألم تسمع النبي e
يقول: (إن من أشد الناس عذاباً أشدهم عذاباً في الدنيا للناس) فقال عياض بن غنم:
يا هشام بنَ حكيم قد سمعنا ما سمعتَ ورأينا ما رأيتَ أولم تسمع رسولَ الله e يقول:
من أرادَ أن ينصح لذي سلطان بأمر فلا يبد له علانية ولكن ليأخذ بيده فيخلو به فإن
قبلَ منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه له)([16]).
قال علي طنطاوي (رحمه
الله): (دخلنا على
أديب الشِيشكلي([17]) فأحسن استقبالنا واستمع مِنّا، فقال الشيخ الإبراهيمي كلاماً جيداً
صريحاً صادقاً، ولكنه مهذب ثم تسلم الكلام [نواب صفوي]([18]) فقال بلهجة المهاجم، المقاتل: أنت تخالف الإسلام وتحارب العاملين به
وكذا وكذا كلاماً ما كنت أحسَبُ أنَّ رجلاً يواجه به آخر من عامة الناس في لقاء
معه أول مرة، وكان العقيد الشيشكلي مبتسماً ما اختلجتْ عضلة في وجهه، وكان يلحظنُي
بطرف عينه خِلسة، كأنه يقول: أهؤلاء الذين جئتني بهم وسألتني الاجتماعَ معهم؟
وكأني أحسست في نظره تهديداً ووعيداً، فلما خرجنا من عنده - وقد شيّعنا إلى الباب-
قال لي نواب صفوي: ما رأيك؟ ينتظر مني أن أقول له [الله يعطيك العافية] فقلتُ:
[الله لا يعطيك العافية] فصُدِمَ وقال: لماذا؟ قلت: إن الله لما بعث موسى وهارون
إلى فرعونَ قال لهما: (( فقولا له قولا لينا ))([19]
(
فهل أنت خير من موسى، أمْ هو شرُّ من فرعون، أمْ أنتَ لا تعرف
آدابَ الخِطاب)([20]).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق