2‏/6‏/2013

تصفية الحساب والتهيؤ للقاء الله


تصفية الحساب والتهيؤ للقاء الله



قال تعالى: (( ... واتقوا الله واعلموا انكم ملاقوه وبشر المؤمنين )) ([1]).

من كلام نبينا e: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أنْ لا يكون دينار ولا درهم...)([2]). و (... إني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبُني بمظلمةٍ في دم ولا مال)([3]).

يشعر الصالحون في محطاتهم الأخيرة حينما يكونون قد أدّوا ما عليهم أنهم مشتاقون للقاء ربهم، وآخرون عليهم تبعاتٌ من مظالم، ومن حسن حظ العبد عند ربه أن يلقى الله وليس أحد يَطلبُه بمظلمة، ونفحاتُ رمضان على الأبواب فطوبى لمن تعرض لها بتصفيةِ حساب.

عن أبي مُوَيهة t - مولى رسول الله e- قال: (أنبهني رسول الله e من الليل فقال: يا أبا مُويهة! إني قد أمِرتُ أن استغفر لأهل البقيع، فرفع يديه فاستغفر لهم طويلاً، ثم قال: ليَهْنِ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس،

أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبعُ آخرُها أوّلها، الآخرة شرٌّ من الأولى، يا أبا مويهة! إني قد أعطيتُ مفاتيح خزائن الدنيا والخلدَ فيها ثم الجنة، فخيّرتُ بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة، فقلتُ([4]): يا رسول الله! بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح الدنيا والخلدَ ثم الجنة فقال: والله يا أبا مويهة، لقد اخترتُ لقاء ربي والجنة)([5]).

قال أحمد بن الضياف (رحمه الله): (زرتُ الشيخ محمد بيرم (رحمه الله) في مرض موته، ملقى في فراشه لا ينطق إلا بقوله [لا إله إلا الله محمد رسول الله] [اللهم أحيني عليها وأمتني عليها يا أرحمَ الراحمين] وكلما خاطبته أو خاطبه ابنه لا يجيب بغير ما ذكِرَ، قال: فبكيتُ وقمتُ وقلتُ: نفضَ الله فراشك بالعافية، وخرجتُ فأمر ابنه أن يُرجعني، فاستدناني وقال لي: لا تعُدْ إلى الدعاء لي بما دعوتَ فإني اشتقتُ للقاء ربي، فأسأل لي التسهيلَ، فبكيتُ وخرجتُ وهذا آخرُ ما سمعتُ منه، ومن الغدِ أحبّ الله لقاءه فماتَ رحمه الله رحمة واسعة)([6]).

 

قال العلماء: (أمران إذا خلي منهما قلبُ الإنسان خربَ    وعطِب، ذكر الله وذِكر الموت، قيل: ذكر الله عرفناه فما ذكر الموت؟ قالوا: إذا قام بسيئ الأعمال ذكر ما إليه المرجع والمآل).

لما حضرت عبادة بن الصامت t الوفاة قال: (اخرجوا إلي مواليَّ وخدمي وجيراني ومن كان يدخل عليَّ فجمعوا له فقال: إن يومي هذا لا أراه إلا آخر يوم يأتي عليَّ من الدنيا وأول ليلة في الآخرة، وإني لا أدري لعله قد فرَط مني إليكم بيدي او بلساني شيء –وهو الذي نفسي بيده القصاص يوم القيامة- وأحرج على أحد منكم، في نفسه شيء من ذلك إلا أقتصَّ مني قبل أن تخرج نفسي، فقالوا: بل كنتُ والداً وكنتَ مؤدباً، فقال: أعفوتم ما كان من ذلك؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد)([7]).

قال صالح ابن الإمام أحمد (رحمه الله): (جاء رجل فقال: تلطف لي بالدخول على أبيك –وكان الإمام أحمد مريضاً مرض الموت- فإني قد حضرت ضربه يوم الدار وأريد أن استحله، فقلتُ له: فأمسك، فلم أزل به حتى قال: أدخله، فأدخلته فقام بين يديه وجعل يبكي، وقال: يا أبا عبدالله! أنا كنتُ ممن حضر ضربك يوم الدار،ـ وقد أتيتك فإن أحببتَ القصاص فأنا بين يديك، وإن رأيت أن تحِلني فعلتَ، فقال: على أن لا تعود لمثل ذلك، قال: نعم، قال: فإني قد جعلتكَ في حِل، فخرج يبكي وبكى من حضر من الناس).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: (( قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له انه هو الغفور الرحيم )) ([8]).

 

الخطبة الثانية

(لما سجن أحمد بن طولون –حاكمُ مصر- القاضي بنَ بكار    - لخلافات سياسية- مرض أحمد بن طولون مرضه الأخير، وأخذ يُراجع أعماله في لحظاته الحاسمة فكان شبحُ ابن بكار أمامه، فأمر بنقله إلى دار خاصة، ثم كتب إليه يَستحِله ويستغفرهُ، -وقديماً قالوا: صحوة العقل وصحوة الموت تأتيان في آن واحد- فجاء رد ابن بكار (رحمه الله) يقول: أنا شيخ كبير، وأنت عليلٌ مُدنِفٌ([9]) والملتقى قريب والحَكم الله فكان ابن طولون في احتضاره يبكي ويردد: هو شيخ كبير، وأنا عليل والملتقى قريب والحَكم الله، ثم مات الوالي أحمد بن طولون وأعقبه ابن بكار بعد أربعين يوماً وكان الملتقى كما حسب القاضي ابنُ بكار)([10]).

لما اسلم عكرمة t قال: يا رسول الله: لا أدع نفقة كنتُ أنفقها في صد عن سبيل الله ولا قتالاً كنت أقاتل في صد عن سبيل الله إلا أبليتُ ضِعفه في سبيل الله([11])،ولقد صدق فقد ترجل يوم اليرموك([12]) فقال له خالد بن الوليد t لا تفعل فإن قتلك على المسلمين شديد، فقال: خل عني يا خالد فإنه قد كان لكَ مع رسول الله e سابقة، وإني وأبي كنا من أشد الناس على رسول الله e فمشى حتى قتِل)([13])

رحم الله ابن الجوزي القائل: (تنبهوا يا نيام، كم ضيعتم من عام، الدنيا كلها منام، وأحلى ما فيها أحلام، هل هي إلا ثوب وطعام،ثم يتساوى خزٌّ وخام، لذات طيبات ووخام، أين سكان القصور والخيام، دارت على الكل كاسُ الحِمام([14])، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)([15]).




[1] [البقرة: ٢٢٣].
[2] ]متفق عليه].
[3] [1314/ الترمذي].
[4] [الكلام لأبي مويهة].
[5] [7/162/ دلائل النبوة – 1/215/ مسند الدارمي].
[6] [ص159/ إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان/ أحمد بن الضياف].
[7] [446/ جـ3/ حياة الصحابة/ محمد الكاندهلوي].
[8] [القصص:16].
[9] [أي صاحب مرض ثقيل – مرض الموت].
[10] [محلة الأزهر/ مايس 1964م].
[11] [ص75/ جـ7/ كنز العمال/261، حياة الصحابة جـ1].
[12] [كما روى ثابت البناني t].
[13] [ص806/ جـ1/ حياة الصحابة – ص75/ جـ7/ كنز العمال].
[14] [الموت].
[15] [ص542/ المدهش/ لابن الجوزي].

القصاص في حياة الأمة


القصاص في حياة الأمة

قال تعالى: (( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون )) ([1]).

(إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعم الله بعقاب منه)([2]).

روى علي طنطاوي (رحمه الله) قال: (سمعتُ –وأنا في مكة- أن أمراً سيقع بعد صلاة الجمعة آخرَ المحرم سنة 1354هـ([3]) حتى إذا قضِيتْ الصلاة جعلتُ أزاحم الناس، وإذا أنا بالشيخ يوسف ياسين –سكرتير الملك- فتعلقتُ به وقلتُ له: والله لا أدعُكَ حتى تبلغَ بي إلى الساحة –ساحة الإعدام- قال: فجيء برجل قصير كزٍّ([4]) ساهِمٍ يقوده جندي حتى إذا بلغ الساحة خلاه فهوى جاثياً على ركبتيه تدور عيناه في الناس من الجزع –حين يئس من الحياة- وجعل يُحرك شفتيه باستغفار ويشير بالسبابة إشارة التوحيد ثم أغمضَ عينيه في ذهول، وجيء بعبدٍ أسود ضَخم الجثة يُمْسِك به ستة من الجنود –وهو يصاولهم ويقاومهم ويصرخ صراخاً شديداً- فأضجعوه على سرير من الخشب،وشدوه شداً وثيقاً فأدركه الخوف فسَكتَ، فأشار الأمير بيده فبرز عبد ضخم من بين الصفوف –وبيده سيف- فهوى به على قذاله([5]) فطاح رأسه ثلاثة أمتار ونفر الدم من عروقه كأنه نافورة فهويتُ([6]) –وكفاني على عيني- ولم أشعر بشيء، ولما صحوتُ قيل: قد فاتك المشهد الهائل، قطِعَتْ يد العبد ورجله من خلاف، قلت: ويحكم، ماذا تقولون! قالوا: ألم تتلُ قول الله عز وجل: (( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ... ))([7]). أما إنكم لولا هذا ما بلغتم أرض الحجاز سالمين، قلتُ: صدق الله العظيم:  (( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون )) ([8]).

قديماً قالوا: لولا السيف لكثر الحَيف.

رَفع شيخٌ بغدادي شكوى إلى الملك فيصل الأول جاء فيها: (... أنَّ له أولاداً ثلاثة، وأن شخصاً تنازع مع أحد أولاده وقتله، وحُكِمَ عليه بالإعدام وخُفضَ إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، وأنَّ القاتل أطلِق بعد تِسع سنين فقتلَ ولده الثاني، وحكم عليه بالإعدام، وخفِفَ الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، وهو في شكواه هذه لا يحتجُّ على تخفيف الحكم، وإنما يريد من الملك أن يُحْييَ له ولدَه الثالث، إذ لم يبقَ له غيره، وكان لهذه الشكوى أبلغَ الأثر فأمر الملك بإعدام من اكتسب الحكم القطعيَّ فأعدم في يوم واحد تسعةُ أشخاص شنقاً علناً)([9](.

إن من واجب الحكومة ومن مصلحتها ومن دواعي ثباتها حفظ الأمن العام الذي تقوم عليه سعادة الأمة.

كان أحد ملوك دارفور([10]) من أعدل السلاطين وأشدهم محافظة على الكتاب والسنة، إذ بعد توليه المُلك بثلاثة أيام خرج إلى مجلس خاصته وسألهم أن يُولوا أحد أعمامه في مكانه لأن مسؤولية المُلك ثقيلة فرفضوا ذلك وأبَوا إلا أن يكون هو السلطان فقال إذن!!! انتظروني أسبوعاً فأخبركم بما أريد، فانتظروه فخرج بعد أسبوع، فقال: أريد أن يَعُمَّ الأمن ويبطلَ التعدي حتى تسلم ماشية أضعفِ النساء، ثم التفت إلى الحكام وقال: أريد أن تعدلوا في الرعية لكيلا يجيء أحد منهم بشكوى –فلم يمض إلا قليلاً حتى جاءته الشكوى على 30 عاملاً فأحضرهم إليه- ولما تحقق ظلمهم أمر أن يُذبحوا عند باب داره 15 عند باب الحريم و 15 عند باب الرجال فوقعت الرهبة في قلوب الجميع وانقطع الظلم، وقد بارك الله في البلاد حتى أتأمت([11]) الإبل والبقر والحمير وغَزَرَت الينابيع([12]) وجرَت الأنهار فلقِبَّ بـ (سَرَف) أي الماء الجاري)([13]).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون )) ([14]).

 

الخطبة الثانية

لا شيء أعظم من حرمة الدماء أياً كانت ما دامت عراقية، فكيف إذا كانت دماءَ علماء الأمة الأطهار، عن عبدالله بن عمرو t قال: (رأيتُ رسول الله e يطوف بالكعبة ويقول: ما أطيب؟ وما أطيب ريحك؟ وما أعظمك؟ وما أعظم حُرمتِك؟ والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم حرمة منك، مالهُ ودمُه [وأن نظُنَّ به إلا خيراً])([15]).

ومن كلام نبينا e : (قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)([16]).

كتب رجل إلى ابن عمر (رضي الله عنهما): (أن اكتب إليَّ بالعلم كله، فكتب إليه: إن العلم كثير ولكنْ! إن استعطت أن تلقى الله خفيفَ الظهر من دماء الناس، خميصَ البطن من أموالهم، كافَّ اللسان عن أعراضهم، لازماً لأمر جماعتهم فأفعل)([17]).

قال علي عليه السلام يوصي ابنه الحسن t: (إياك والدماءَ وسَفكها بغير حِلها فإنه ليس شيء أدعى لنقمةٍ ولا أعظمَ تبعة ولا أحرى بزوالِ نعمةٍ وانقطاع مدةٍ من سفك الدماء بغير حقها)([18]). و (ما أحببتُ منذ علمتُ ما ينفعني ويضُرني أن ألِيَ أمة محمد e على أن يهراق في ذلك محجمُ دم)([19]). 

  



[1] [البقرة:179].
[2] [2168/ صحيح الترمذي - والجامع/ 19609].
[3] [قبل 79 سنة].
[4] [المنقبض/ اليابس].
[5] [ما بين الأذنين من مؤخر الرأس].
[6] [سقطت].
[7] [المائدة: ٣٣ٍ].
[8] [البقرة:179].
[9] [كان ذلك عام 1931 – 1932م].
[10] [هو السلطان (عمر بن محمد الثاني) سلطان دارفور من 1170 – 1177هـ - 1757 – 1764م].
[11] [صارت تأتي بالتوائم].
[12] [أي: كثر ماؤها].
[13] [ص273/ تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان/ محمد بن عمر التونسي].
[14] [المائدة:50].
[15] [2441/ صحيح الترغيب - والزيادة لابن ماجة].
[16] [3325/ جـ3/ صحيح سنن النسائي].
[17] [ص148/ جـ3/ سير أعلام النبلاء].
[18] [ص256/ جـ2/ جمهرة وصايا العرب].
[19] [ص122/ تاريخ اليمن الفكري/ أحمد الشامي].