تصفية الحساب والتهيؤ للقاء الله
من كلام نبينا e: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء
فليتحلله منه اليوم قبل أنْ لا يكون دينار ولا درهم...)([2]). و (... إني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبُني بمظلمةٍ في دم
ولا مال)([3]).
يشعر الصالحون في محطاتهم الأخيرة حينما يكونون قد أدّوا ما عليهم
أنهم مشتاقون للقاء ربهم، وآخرون عليهم تبعاتٌ من مظالم، ومن حسن حظ العبد عند ربه
أن يلقى الله وليس أحد يَطلبُه بمظلمة، ونفحاتُ رمضان على الأبواب فطوبى لمن تعرض
لها بتصفيةِ حساب.
عن أبي مُوَيهة t - مولى رسول الله e- قال: (أنبهني رسول الله e من الليل فقال: يا أبا مُويهة! إني قد أمِرتُ
أن استغفر لأهل البقيع، فرفع يديه فاستغفر لهم طويلاً، ثم قال: ليَهْنِ لكم ما
أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس،
أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبعُ آخرُها أوّلها، الآخرة شرٌّ من
الأولى، يا أبا مويهة! إني قد أعطيتُ مفاتيح خزائن الدنيا والخلدَ فيها ثم الجنة،
فخيّرتُ بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة، فقلتُ([4]): يا رسول الله! بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح الدنيا والخلدَ ثم الجنة
فقال: والله يا أبا مويهة، لقد اخترتُ لقاء ربي والجنة)([5]).
قال أحمد بن الضياف (رحمه الله): (زرتُ
الشيخ محمد بيرم (رحمه الله) في مرض موته، ملقى في فراشه لا ينطق إلا بقوله [لا إله إلا الله محمد
رسول الله] [اللهم أحيني عليها وأمتني عليها يا أرحمَ الراحمين] وكلما خاطبته أو
خاطبه ابنه لا يجيب بغير ما ذكِرَ، قال: فبكيتُ وقمتُ وقلتُ: نفضَ الله فراشك
بالعافية، وخرجتُ فأمر ابنه أن يُرجعني، فاستدناني وقال لي: لا تعُدْ إلى
الدعاء لي بما دعوتَ فإني اشتقتُ للقاء ربي، فأسأل لي التسهيلَ، فبكيتُ وخرجتُ
وهذا آخرُ ما سمعتُ منه، ومن الغدِ أحبّ الله لقاءه فماتَ رحمه الله رحمة واسعة)([6]).
قال العلماء: (أمران إذا خلي منهما قلبُ الإنسان خربَ وعطِب، ذكر الله وذِكر الموت، قيل: ذكر الله
عرفناه فما ذكر الموت؟ قالوا: إذا قام بسيئ الأعمال ذكر ما إليه المرجع والمآل).
لما حضرت عبادة بن الصامت t الوفاة قال: (اخرجوا إلي مواليَّ وخدمي وجيراني
ومن كان يدخل عليَّ فجمعوا له فقال: إن يومي هذا لا أراه إلا آخر يوم يأتي عليَّ
من الدنيا وأول ليلة في الآخرة، وإني لا أدري لعله قد فرَط مني إليكم بيدي او
بلساني شيء –وهو الذي نفسي بيده القصاص يوم القيامة- وأحرج على أحد منكم، في نفسه
شيء من ذلك إلا أقتصَّ مني قبل أن تخرج نفسي، فقالوا: بل كنتُ والداً وكنتَ
مؤدباً، فقال: أعفوتم ما كان من ذلك؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد)([7]).
قال صالح ابن الإمام أحمد (رحمه الله): (جاء
رجل فقال: تلطف لي بالدخول على أبيك –وكان الإمام أحمد مريضاً مرض الموت- فإني قد
حضرت ضربه يوم الدار وأريد أن استحله، فقلتُ له: فأمسك، فلم أزل به حتى قال:
أدخله، فأدخلته فقام بين يديه وجعل يبكي، وقال: يا أبا عبدالله! أنا كنتُ ممن حضر
ضربك يوم الدار،ـ وقد أتيتك فإن أحببتَ القصاص فأنا بين يديك، وإن رأيت أن تحِلني
فعلتَ، فقال: على أن لا تعود لمثل ذلك، قال: نعم، قال: فإني قد جعلتكَ في حِل،
فخرج يبكي وبكى من حضر من الناس).
هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: (( قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر
لي فغفر له انه هو الغفور الرحيم )) ([8]).
الخطبة
الثانية
(لما
سجن أحمد بن طولون –حاكمُ مصر- القاضي بنَ بكار - لخلافات سياسية- مرض أحمد بن طولون مرضه
الأخير، وأخذ يُراجع أعماله في لحظاته الحاسمة فكان شبحُ ابن بكار أمامه، فأمر
بنقله إلى دار خاصة، ثم كتب إليه يَستحِله ويستغفرهُ، -وقديماً قالوا: صحوة
العقل وصحوة الموت تأتيان في آن واحد- فجاء رد ابن بكار (رحمه
الله) يقول: أنا شيخ كبير، وأنت عليلٌ مُدنِفٌ([9]) والملتقى قريب والحَكم
الله فكان ابن طولون في احتضاره يبكي ويردد: هو شيخ كبير، وأنا عليل والملتقى قريب
والحَكم الله، ثم مات الوالي أحمد بن طولون وأعقبه ابن بكار بعد أربعين يوماً وكان
الملتقى كما حسب القاضي ابنُ بكار)([10]).
لما اسلم عكرمة t قال: يا رسول الله: لا أدع نفقة كنتُ أنفقها في
صد عن سبيل الله ولا قتالاً كنت أقاتل في صد عن سبيل الله إلا أبليتُ ضِعفه في
سبيل الله([11])،ولقد صدق فقد ترجل
يوم اليرموك([12]) فقال له خالد بن
الوليد t
لا تفعل فإن قتلك على المسلمين شديد، فقال: خل عني يا خالد فإنه قد كان لكَ مع
رسول الله e سابقة، وإني وأبي كنا من أشد الناس على رسول
الله e
فمشى حتى قتِل)([13])
رحم الله ابن الجوزي
القائل: (تنبهوا يا نيام، كم ضيعتم من عام، الدنيا كلها منام، وأحلى ما فيها أحلام،
هل هي إلا ثوب وطعام،ثم يتساوى خزٌّ وخام، لذات طيبات ووخام، أين سكان القصور
والخيام، دارت على الكل كاسُ الحِمام([14])، ويبقى وجه ربك ذو
الجلال والإكرام)([15]).