2‏/6‏/2013

الإحسان

الإحسان
 
قال تعالى: (( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ... )) ([1]).
عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: (بينما رسول الله e بفناء بيته بمكة جالس إذ مرَّ به عثمان بن مظعون فكشَّر([2]) إلى رسول الله e فقال له رسول الله e ألا تجلس؟ قال: بلى، فجلس رسول الله e مُستقبلهُ فبينما هو يحدثه إذ شخصَ رسول الله e ببصره إلى السماء، ينظر ساعة إلى السماء، فأخذ يَضَعُ بصَرَه حتى وضَعَه على يمينه في الأرض، فتحَرفَّ رسول الله e عن جليسه –عن عثمان- إلى حيث وضَعَ بَصَرَه فأخذ ينفضُ رأسه كأنه يستفهمُ ما يُقال له –وابن مظعون ينظر- فلما قضى حاجَته واسْتفقهَ ما يُقال له شخص بَصَرُ رسول الله e إلى السماء كما شخص أولَّ مرة فأتبَعَه بَصَره حتى توارى في السماء، فأقبل على عثمان بجلسته الأولى، قال: يا محمد! فيما كنتُ أجالسُك وآتِيك ما رأيتك تفعل كفِعلِك الغداة!([3]) قال: وما الذي رأيتني فعلتُ؟ قال: رأيتك شَخَصَ بَصَرُك إلى السماء ثم وضَعته حيث وضَعْته عن يمينك فتحَرَّفتَ وتركتني فأخذتَ تنفضُ رأسَك كأنك تسْتفقِهُ شيئاً يُقال لك! قال: وفطِنتَ لذلك؟ قال عثمان t : نعم، قال رسول الله e : أتاني رسول الله آنفاً وأنت جالس، قال: رسول الله؟ -أي جبريل- قال: نعم، قال: فما قال لك؟ قال: (( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون )) ([4])قال عثمان: فذاك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببتُ محمداً e)([5]).
سُئل سفيان بن عيينه (رحمه الله) عن قوله تعالى: (( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ... )) فقال: العدل: الإنصاف، الإحسان: التفضّل.
قال الدكتور عماد الدين خليل حفظه الله: الإحسان: (الإبداع الكامل في كل ما يُقدِمه الإنسان أمام الله)([6]). يشير إلى العبودية الكاملة في القول والعمل والسلوك، وهذا تفسير لقوله e: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)([7]).
فإذا أخضِعتْ النفس لرقابة الله U أتقنتْ كلَّ تكليف يوصلها درجة المحسنين وحققت المثل العليا في الإسلام، وهذا ما أراده لنا نبينا e بقوله: (إن الله تعالى محسن فأحسنوا)([8]). فالإحسان! غاية درجات التقوى في السلوك والاعتقاد. فقد يُرى في المواقف الإنسانية.
ذكر التاريخ: (أن جملاً عليه حطب اجتاز في سوق الخرّازين([9]) ببغداد وكان رجل يثقبُ لؤلؤاً وبين يديه نار فوقع طرف القصب على النار فاشتعلت، فكان الجمل كلما أحّسَّ بوقع النار عدا وتنافضَ الشرار منه في جانبي الطريق، وتلِفَ ناس وزالت نِعَمٌ كثيرة بذهاب الأموال، فخاطب الخليفة المعتصم أحمدَ بن أبي دؤاد القاضي بإطلاق خمسة آلاف ألف درهم([10]) فالتفت شيخٌ إلى نفسين في المجلس فقال: قوما، فقاما، فقال: أيها القاضي! هذان قد ذهب منهما خمسة آلاف ألف درهم... والباقون؟؟؟ فتحير القاضي وقال: ما ترون في هذا! فقال أولئك النفسان: أما نحن فما نريد شيئاً إلا من الله U ولا نطلبه إلا من فضله ولكن نجعل هذا المالَ مقسوماً على أهل البضائع اليسيرة وصغار الناس، فإن رغب أحد من الأكابر في أن يشارك الأصاغِر فأن ذاك إليه وإليك، فقام خلق كبير وقالوا: أجعله للأصاغِر)([11]).
وجوه الإحسان كثيرة!
إحسان في العفو.
إحسان في الجود.
إحسان في المداينة.
إحسان في البيع والشراء.
إحسان في العلاقات الزوجية.
إحسان حتى الحَيوان.
عن توبة بن نِمر القاضي: (أن رجلاً وامرأته اختصما عنده، فقال: توبة: مَتعْهَا، فقال: لا أفعل، فسكت عنه لأنه لم يَرضه لازماً له، فاتاه الرجلُ الذي طلق امرأته في شهادة فقال له توبة: لست قابلاً شهادتك، قال: ولمَ؟ قال: لأنك أبيتَ أن تكون من المحسنين، وأبيتَ أن تكون من المتقين ولم يقبل شهادته)([12]).
هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: (( إن رحمت الله قريب من المحسنين ))([13]).
 
الخطبة الثانية
ذكر محمد كرد علي (رحمه الله) في مذكراته ما يأتي: (قصصتُ يوماً على شكري القوتلي([14]) قصة رُويَتْ لي عن جده عبدالغني (رحمه الله) قلت: بلغني أن جدك حُمِل إليه ذات يوم من قريته إثنا عشر حِملاً من الحطب –وكان يُطِلُّ من طنفِ([15]) غرفته على الشارع، فشاهد احد الجَمّالة يقطع حِملين ويسوقها أمامه، فأبتعه السيد حتى رآه أناخ الجَمَلين أمام بيت في محلة النوفرة فبصُر في الدار فرآها خالية من كل شيء يدل على حياة، فأمسك بيد الجّمال وأبتاع له كيسين من الدقيق وصفيحة زيت، وصفيحة دبس وسلة أرز وسلة بُن وكلَّ ما يلزم للطعام وقال له ممازحاً: الآن يلزمك الحطب، أما من قبلُ فماذا تعمل به)([16]).
عن محمد بن زيد عن أبيه: (أن ابن عمر (رضي الله عنهما) كاتبَ غلاماً له بأربعين ألفاً، فخرج إلى الكوفة فكان يعمل على حَمولة([17]) حتى إذا جمع خمسة عشر ألفاً، فجاءه إنسان فقال: أمجنون أنتَ! أنتَ ههنا تعذب نفسك وابن عمر يشتري الرقيق يميناً وشمالاً ثم يُعقتهم! ارجع إليه فقل عجزتُ، فجاء إليه بصحيفته فقال: يا أبا عبدالرحمن! قد عَجَزتُ وهذه صحيفتي فامحها، فقال: لا ولكن امحها أنتَ إن شئت، فمحاها ففاضت عينا عبدالله وقال: اذهب فأنت حر، قال: أصلحك الله! أحسِن إلى إبنيَّ، قال: هما حُرّان، قال: أصلحك الله! أحسِن إلى أمَّي ولدَّي قال: هما حُرَّتان)([18]).
روى أحد موالي علي بن الحسين (زين العابدين) (رضي الله عنهم أجمعين) قال: (كنت غلاماً لعلي بن الحسين فأرسلني بحاجة فأبطأت عليه، فلما جئته خفقني بالسوط فبكيتُ واشتد غيظي منه لأنه ما خفق أحداً قبلي قط، وقلت له: الله الله يا عليَّ بن الحسين! أتستخدمني في حاجة فأقضِها لكَ ثم تضربني؟ فبكى وقال: اذهب إلى مسجد رسول الله e وصَلِّ ركعتين ثم قل: اللهم اغفر لعلي بن الحسين، فإذا ذهبتَ وفعلتَ فأنت حرٌّ لوجه الله تعالى، فذهبتُ وصليتُ ودعوتُ ولم أعد إلى داره إلا وأنا حُر).


[1] [النحل: ٩٠].
[2] [كشف عن أسنانهِ مبتسماً].
[3] [أول النهار].
[4] [النحل: ٩٠].
[5] [2919/ مسند أحمد].
[6] [ص43/ حول تشكيل العقل السليم].
[7] [2762/ جـ1/ صحيح الجامع].
[8] [1819/ صحيح الترغيب].
[9] [السوق الذي يخرز ويباع فيه الخرَز والفصوص].
[10] [5 ملايين درهم].
[11] [ص101/ جـ2/ نشوار المحاضرة].
[12] [ص344/ أخبار قضاة مصر].
[13] [الأعراف: ٥٦].
[14] [رئيس سوريا 1940 – 1955].
[15] [إفريز فوق الباب كالسقيفة].
[16] [ص70/ مذكرات محمد كرد علي].
[17] [ما يُحملُ عليه من الدواب].
[18] [ص114/ جـ3/ سير أعلام النبلاء].

شهر رمضان.. شهر تراحم وسرور


شهر رمضان.. شهر تراحم وسرور

 

قال تعالى: (( يأيها الذين امنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )) ([1]).

مُلِئت بيوت الناس بالهموم، وقلما تجد بيتاً لم يُصبْ بنكبة في مالِه أو دمِه أو عِرضه، ولما كان نبينا e قد قال: (من أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن، تقضي عنه دَيْناً، تقضي له حَاجة، تنفس له كربة)([2]). فإن هذا الشهر المُبارك يجب أن يكونَ دخوله على الناس فاتحة خير وبركة ورحمةٍ، وتخفيف للهموم وهذه كلها آثار للتقوى، فرمضان مدرسة لتجديد الإيمان وتهذيب الأخلاق، وتعظيم شعائره من علامات الإيمان.

ومن تعظيم هذا الشهر ما كان يفعله نبينا e فيما رواه ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: (كان رسول الله e أجودَ الناس وكان أجودَ ما يكون في رمضان)([3]).

ورسول الله e يقول: (خياركم من أطعَمَ الطعام)([4]).

وهو شهر الفضل والإحسان في جميع وجوه الخير، فهو يؤدب النفس ويخرجُها من خسَاسة الشُّح إلى فضيلةِ الجود.

ذكر الرحالة ابن بطوطة (رحمه الله) أن: (من فضائل أهل دمشق أنه لا يفطر أحد منهم - في ليالي رمضان - وحده البتة فمن كان غنياً فإنه يدعو أصحابه والفقراء في دار أحدهم أو في مسجد ويأتي كلُّ واحد بما عنده فيفطرون جميعاً)([5]).

وذكر محمد كرد علي (رحمه الله) في مذكراته: (أن أحدَ أعيان دمشق([6]) يدعو إلى قصره - في رمضان - أربعمائة أو خمسمائة فقير ويهيئ لهم ألذ المآكل التي تفاخر بها دمشق والحلوى والفاكهة، حتى إذا طعموا وخرجوا من الباب تلقاهم الخدم وقد أعدوا لكل مدعو ثوباً ونعلاً، وريالاً ينفق مهنه على عياله)([7]).

وهو يؤدب الجوارحَ حتى يلزمَها التقوى، عفة في اللسان عن الكلام الفاحش، وعفة في الأذنين عن سماع الخَنا والباطل، وعفة في العينين عن النظر إلى ما حَرَّمَ الله. وقد قال العلماء (رحمهم الله): (طول الاستماع إلى الباطل يطفئ حلاوة الطاعة في القلب).

عن علي بن أبي طالب t قال: سمعتُ رسول الله e يقول: (ما هممت بشيء([8]) مما كان أهل الجاهلية يَهُمّون به إلا مَرَّتين من الدهر، كلاهما يعصمني اللهُ تعالى منهما، قلتُ ليلة لفتىً كان معي من قريش في أعلى مكة –في أغنام لأهلها- ترعى: أبصِر لي غنمي حتى أسْمُرَ هذه الليلة بمكة كما تسْمُر الفتيان، قال: نعم، فخرجتُ فلما جئت أدنى دار من دور مكة سمعتُ غناءً وصوتَ دفوفٍ وزَمْرٍ، فقلتُ: ما هذا؟ قالوا: فلان تزوج فلانة –لرجل من قريش تزوج امرأة- فلهوتُ بذلك الغناء والصوت حتى غلبتني عيني، فنِمْتُ فما أيقظني إلا مَسُّ الشمس ثم رجعتُ...([9]) إلى صاحبي فقال: ما فعلتَ؟ فقلتُ: ما فعلتُ شيئاً. قال رسول الله e: فوالله ما هممتُ بعدها أبداً بسوءٍ مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله تعالى بنبوته)([10]).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( ذلك ومن يعظم من شعائر الله فإنها من تقوى القلوب )) ([11]).

 

الخطبة الثانية

أعجبني جداً كلامٌ للإمام الزهري (رحمه الله)، حيث قال في رمضان: (إنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام) قلت: قد تكملتُ عن إطعام الطعام، أما عن القرآن فأقول:

والله لو قرئ كما كان يقرأه النبي e وصحابته الكرام وعمل بما فيه لكنا أعز خلق الله عز وجل، وهذه الأيام هي الأيام التي نزل فيها القرآن الكريم على قلب أشرف الخلق سيدنا محمد e، الذي (كان يقرأ مترسِّلاً إذا مَرَّ بآية فيها تسبيح سبح وإذا مَرّض بسؤال سأل، وإذا مَرَّ بتعوذ تعّوذ)([12]) و (كانت مُفسَّرة حرفاً حرفاً)([13]).

عن صالح بن جبير (رحمه الله) قال: قد علينا جمعة الأنصاري       - صاحبُ رسول الله e- بَيْتَ المقدس ليُصليَ فيه، ومعنا رجاء بنُ حَيوة يومئذٍ، فلما انصرف خرجنا معه لنشيّعَهُ، فلما أردنا الانصراف قال: إن لكم علي جائزة وحقاً، أحدِّثكم بحديث سمعته من رسول الله e. قال: فقلنا: هاتِه يرحمك الله! قال: كنا مع رسول الله e معنا معاذ بن جبل عاشِر عَشرة، قال: فقلنا: يا رسول الله! هل من قوم هم أعظمُ منا أجراً، آمنا بك وأتبعناك؟ قال: ما يَمنعكم من ذلك، ورسول الله e بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء؟ بل قوم يأتون من بعدكم، يأتيهم كتاب بين لوحين، يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم مِنكم أجراً)([14]).

 



[1] [البقرة:183].
[2] [174/ السلسلة الصحيحة].
[3] [البخاري].
[4] [44/ جـ1/ السلسلة الصحيحة].
[5] [ص144/ الرحالة المسلمون].
[6] [عبدالغني القوقلي].
[7] [ص69/ مذكرات].
[8] [في رواية ابن حبان: بقبيح. وفي لفظ البيهقي: سمعتُ غرفاً بغرابيل ومزامير].
[9] [فعل ذلك مرة ثانية].
[10] [1/1/130/ البخاري في التاريخ – 640 البزار – 14/169/ صحيح ابن حبان – والحاكم 4/245].
[11] [الحج:32].
[12] [صحيح البخاري].
[13] [ رواه أبو داود].
[14] [3529/ السلسلة الصحيحة].