2‏/6‏/2013

الفحش في الكلام ليس من الإسلام


الفحش في الكلام ليس من الإسلام

 

قال تعالى: (( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ... )) ([1]).

عن جابر بن سَمُرة t قال: (كنتُ في مجلس فيه النبي e وسَمُرة وأبو أمامة t فقال: إن الفحشَ والتفحشَ ليسا من الإسلام في شيء، وإن أحسن الناس إسلاماً أحسنهم خلقاً)([2]).

الفحشُ في الكلام عادة سيئة جداً - في بعض الناس- لازمة لهم في بيوتهم وأسواقهم وحتى في مساجدهم، لا ينفكون عنها عند أي غضبٍ يعتريهم، وربما تكلموا بفاحش القول بلا موجب لذلك، ورسول الله e يقول: (إن شرَّ الناس منزلة عند الله يوم القيامة مَنْ تركه الناس اتقاءَ فحشه)([3]).

قال الأحنف بن قيس t: (ألا أخبركم بأدوءِ الداء! الخلق الدنيء واللسان البذيء)([4]).

روى القاضي عياض (رحمه الله) في كتابه([5]) ما يأتي: (أفتى الإمام مالك (رحمه الله) لبعض الشعراء بما لا يوافقه، فقال –أي شاعر- : يا أبا عبد الله! أتظنُ الأمير لم يكن يعرف هذا القضاء الذي قضيته؟ بلى، وإنما أرسلنا إليك لتصلح بيننا فلم تفعل، بالله لأقطِعنَّ جلدك هجاءً. فقال له مالك: يا هذا! أتدري ما وصفت به نفسك؟ وصفتها بالسَفه والدناءة وهما اللذان لا يعجز عنهما أحد فإن استطعت فأتِ غيرهما مما تنقطع دونه الرقاب من الكرم والمروءة).

قال ابن عباس t: (إن الله حيي كريم يعفو ويَكنو([6]) كنى باللمس عن الجماع فقال: (( ... أو لامستم النساء ...)) ([7]) وقال: (( وهو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا ...)) ([8]). وهذا رسول الله e (لم يكن فاحشاً ولا مُتفحِشاً...)([9]).

قال نصر بن يحيى (رحمه الله): (من شَتم أهله ومماليكه كثيراً لا تقبل شهادته وكذا الشتام للحيوان وكانوا يَرَون ذلك من مُسقِطاتِ المروءة)([10]).

وقد ذكرت في سالف الأيام ما حكاه الإمام السبكي (رحمه الله) قال: (كنتُ جالساً في دِهليز دارنا فأقبل كلب، فقلتُ: اخسأ كلب بن كلب، قال: فزجرني والدي من داخل البيت، قلتُ: سبحان الله! أليس هو كلب ابن كلب؟ قال: شرط الجواز عدم قصد التحقير. قلتُ: وهذه فائدة)([11]).

عن طلحة بن عُمَير قال: قلتُ لعطاء بن أبي رباح (رحمه الله): (إنك رجل تجتمع عندك أناس ذوو أهواءٍ مختلفة، وأنا رجل فيَّ حِدةٌ، أقول لهم بعض القول الغليظ، فقال: لا تفعل، إذ يقول الله تعالى: (( ... وقولوا للناس حسنا ...)) ([12])([13]).

عن شريح بن هانئ (رحمه الله) قال: حدثني هانئ بن يزيد: (أنه لما وفد إلى النبي e مع قومه، فسمعهم النبي e وهم يكنونه بأبي الحكم، فدعاه النبي e فقال (إن الله هو الحَكم وإليه الحُكمُ فلِمَ تكنيتَ بأبي الحكم؟) قال: لا([14]) ولكنّ قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الطرفين، قال: ما أحسن هذا، ثم قال: ما لك من الولد؟ قلت: لي شريح، وعبد الله ومسلم، قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح، قال: فأنت أبو شريح (ودعا له ولولده) ولما حضر رجوعُه إلى بلاده أتى النبي e فقال: أخبرني بأيِّ شيء يوجب لي الجنة؟ قال: عليك بحسن الكلام وبذل الطعام)([15]).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: (( يأيها الذين امنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا )) ([16]).

 

 

الخطبة الثانية

أمامكم أيام مُباركة للدعاء –الذي هو أفضل العبادات- ورسول الله e يقول: (إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها، لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبداً)([17]).

ومن ذلك ليلة القدر المباركة، ولا يُنسى يومُ الجمعة المُبارك الذي قال فيه رسول الله e: (عُرضت علي الأيام، فعُرضَ عليَّ فيها يومُ الجمعة، فإذا هي كمرآةٍ بيضاء، وإذا في وسَطها نكتة سوداء، فقلتُ: ما هذه؟ قيل الساعة)([18]).

عن أبي هريرة t قال: أتيتُ الطور([19]) فوجدتُ ثمَّ([20]) كعباً، فمكثتُ أنا وهو يوماً أحدثه عن رسول الله e ويُحدثني عن التوراة، فقلت له: قال رسول الله e: (خير يوم طلعت عليه الشمس يومُ الجمعة، فيه خلق آدم وفيه اهبط، وفيه تِيبَ عليه، وفيه قبض، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة([21]) يومَ الجمعة من حين تُصبِح حتى تطلعَ الشمس شفقاً من الساعة إلا ابن آدم – وفي رواية- (إلا الجن والإنس) وفيه ساعةٌ لا يُصادفها مؤمن –وهو يصلي- يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه إياه) فقال كعب: ذلك يوم في كل سنة فقلتُ: بل هي في كل جمعة، فقرأ كعب التوراة، ثم قال: صدق رسول الله هو في كل جمعة، فخرجت... فلقيتُ عبدَ الله بن سلام t فقلتُ: لو رأيتني خرجتُ إلى الطور فلقيتُ كعباً فمكثتُ أنا وهو يوماً أحدثه عن رسول الله e ويحدثني عن التوراة فقلتُ له:

قال رسول الله e: (...وذكرت الحديث([22])) قال كعب: ذلك يوم في كل سنة، فقال: عبد الله بن سلام: كذبَ كعب؟ قلتُ: ثم قرأ كعب فقال: صدق رسول الله هو في كل جمعة، فقال عبد الله: صدق كعب، إني لأعلم تلك الساعة، فقلتُ([23]): يا أخي! حدثني بها، قال: هي آخر ساعة من يوم الجمعة قبل أن تغيب الشمس، فقلتُ: أليسَ قد سمعتَ رسولَ الله e يقول: (لا يصادفها مؤمن وهو في الصلاة)؟ وليستْ تلك ساعة صلاةٍ؟ قال: أليسَ قد سمعتَ رسول الله e يقول: (من صلى وجلس ينتظر الصلاة لم يزل في صلاته حتى تأتيه الصلاةُ التي تلاقيها)؟؟؟ قلتُ: بلى، قال: فهو كذلك)([24]).

 



[1] [الإسراء: ٥٣].
[2] [2653/ جـ3/ صحيح الترغيب والترهيب].
[3] [البخاري].
[4] [2/122/ إحياء علوم الدين].
[5] [ترتيب المدارك/ 1/190].
[6] [يقول شيئاً ويريد غيره].
[7] [النساء: ٤٣].
[8] [الأعراف: ١٨٩].
[9] [2640/ جـ3/ صحيح الترغيب والترهيب].
[10] [ص141/ المروءة وخوارمها/ أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان].
[11] [ص80/ الأخوة/ محمد حسين].
[12] [البقرة: ٨٣].
[13] [ص50/ تنبيه الغافلين].
[14] [أي أتكنى بذلك لاضاد ما ذكرت يا رسول الله].
[15] [ص623/ جـ2/ الأدب المفرد].
[16] [الأحزاب: ٧٠].
[17] [ص512 الطبراني في الأوسط – السلسلة الصحيحة].
[18] [2624/ السلسلة الصحيحة].
[19] [بلدة في سيناء جنوب غبر جبل موسى]
[20] [هناك]
[21] [مصغية مستمعة].
[22] [يعني الأول (خير يوم...)]
[23] [الكلام لأبي هريرة].
[24] [1430/ النسائي].

الجنة وطلب الصالحين لها وشوقهم إليها


الجنة وطلب الصالحين لها وشوقهم إليها

 

قال تعالى: (( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون )) ([1]).

عن عبد الله بن مسعود t قال: (صلى رسول الله e العشاء ثم انصرف، فأخذ بيد عبد الله بن مسعود t حتى خرج به
إلى بطحاء مكة فأجلسه ثم خط عليه خطاً ثم قال: لا تبرحَنَّ خطك فإنه سينتهي إليك رجال فلا تكلمهم فإنهم لن يكلموك، ثم مضى رسول الله
e حيث أراد، فبينما أنا جالس في خطي إذ أتاني رجال كأنهم الزُّط([2])، أشعارهم وأجسامهم لا أرى عورة ولا أرى قِشراً([3])، وينتهون إليَّ ولا يجاوزون الخط ثم يصدرون إلى رسول الله e حتى إذا كان من آخر الليل لكنَّ رسول الله e قد جاءني وأنا جالس ثم دخل عليّ في خطي فتوسَّد فخذي ورَقد، وكان رسول الله e إذا رقد نفخ فبينما أنا قاعد ورسول الله e متوسد فخذي إذا أنا برجال عليهم ثياب بيض الله أعلم ما بهم من الجمال فانتهوا إليَّ، فجلس طائفة منهم عند رأس رسول الله وطائفة منهم عند رجليه، ثم قالوا بينهم: ما رأينا عبداً قط أوتي مثل ما أوتي هذا النبي، إن عينيه تنامان، وقلبَه يقظان، اضربوا له مثلاً، مثل سيد بنى قصراً ثم جعل مائدة فدعا الناس إلى طعامه وشرابه فمن أجابه أكل من طعامه وشرابه ومن لم يجبه عاقبه أو قال عذبه ثم ارتفعوا، واستيقظ رسول الله e فقال: سمعتَ ما قال هؤلاء؟ وهل تدري من هم؟ قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: هم الملائكة، فتدري ما المثل الذي ضربوه؟ الرحمن بنى الجنة، ودعا إليها عباده فمن أجابه دخل الجنة، ومن لم يجبه عاقبه أو عذبه)([4]).

أعجب العجب أن يعلم المسلم ما أعد الله لعباده الصالحين في الجنة، ويترك دعوة الله له إليها.

لقد عجب نبينا e من هذه الحال فقال: (ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها)([5]).

وكان من دعائه: (اللهم إني أسالك الجنة، وما قرب إليها من قولٍ وعمل)([6]).

وبعض الناس يقتتلون على أخْذِ ما حرم الله عليهم ويتركون نعيم الأبد وصحبة النبيين، وقد قيل لخالد بن صفوان([7]) من أبلغ الناس؟ قال: الحسن البصري في قوله: (فضح الموت الدنيا) قلت: صدق والله، هذا كلام بليغ في معناه، عمن عاين الجنة ساعة الاحتضار فيا لتفاهة الدنيا وما فيها.

حكى الدكتور خالد جبير قال: (جيء إلينا بشاب مصاب بجلطة، نظرتُ إليه فإذا هو يصارع الموتَ، ولما رجعت رأيت الشاب متعلقاً بيد الطبيب، والطبيب قد ألصق أذنه بفم الشاب وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ومات، فانفجر طبيب الإسعاف باكياً حتى أنه لم يستطع الوقوف على قدميه، فعجِبنا، وقلنا: ما لك تبكي؟ ليست هذه أولَ مرة ترى فيها ميتاً، لكنَّ الطبيب استمر في البكاء فلما هدأ قال لي([8]): لما رآك تأمر وتنهى علم أنك المختصُّ به فقال لي: يا دكتور!! قل لصاحبك لا يُتعِب نفسَه، انا ميتٌ، والله إني أرى مقعدي في الجنة الآن. هذا الشاب سقط في المسجد بعد أن رد المصحف الذي كان يقرأه، ثم نهض ليَقِف في الصف فإذا به يقع على الأرض)([9]).

قلتُ قال نبينا e: (خِصال ست ما من مسلم يموت في واحدة منهن إلا كان ضامناً على الله أن يدخله الجنة...

رجل خرج مجاهداً فإن مات في وجهه كان ضامناً على الله أن يدخله الجنة...

ورجل تبع جنازة فإن مات في وجهه كان ضامناً على الله أن يدخله الجنة...

ورجل عاد مريضاً فإن مات في وجهه كان ضامناً على الله أن يدخله الجنة...

ورجل توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لصلاته فإن مات في وجهه كان ضامناً على الله أن يدخله الجنة...

ورجل أتى إماماً لا يأتيه إلا ليُعزِّره ويوَقره فإن مات في وجهه كان ضامناً على الله أن يدخله الجنة...

ورجل في بيته، لا يغتاب مسلماً ولا يجرُّ إليهم سُخْطاً ولا نِقمة فإن مات كان ضامناً على الله أن يدخله الجنة)([10]).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( وازلفت الجنة للمتقين غير بعيد () هذا ما توعدون لكل اواب حفيظ () من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب () ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود ()لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ))([11]).

 

 

 

الخطبة الثانية

قال بشر الحافي كلاماً جميلاً في هذا الموضوع: (ويحك هب أنك لا تخاف إلا تشتاق؟).

خرج سعيد بن عامر t والياً على حمص ومعه ألف دينار عطاؤه، فاشترى بقليلٍ حاجاتِ بيته، ثم قال لامرأته: إني عازم على تجارة بيد خبير([12]) فوافقتْ فصرفه في وجوه الخير، ومضت الأيام فألحَّتْ الزوجة على مصير المال،ولما أكثرت عليه قال لها: لو أن خَيرة من الخيرات الحسان إطلعتْ من السماء لأضاءت أهل الأرض، ولنصيفها([13]) خير من الدنيا وما فيها، فلأنتِ أحرى في نفسي أن أدَعَكَ لهنَّ من أن أدَعَهنَّ لك، إن لي أصحاب فارقوني([14]) منذ قريب ما أحِبُّ أني صُدِدْتُ عنهم وأن لي الدنيا وما فيها)([15]).

قال أبو سلام الحبشي (رحمه الله): (بعث إليَّ عمر بن عبدالعزيز (رحمه الله) فحُمِلتُ على البريد، فلما دخلتُ عليه قلتُ: يا أمير المؤمنين! لقد شقَّ عليَّ مركبي البريدَ فقال: يا أبا سلام! ما أردتُ أن أشُقَّ عليك ولكن بلغني عنك حديث تحدثه عن ثوبان t عن رسول الله e في الحوض فأحببتُ أن تشافهني به، فقلتُ: حدثني ثوبان t أن رسول الله e قال: (حوضي مثل ما بين عدن إلى عمان –البلقاء- ماؤه أشدُّ بياضاً من الثلج، وأحلى من العسل، وأكوابه عدد نجوم السماء، من شرب منه شَرْبة لم يظمأ بعدها أبداً، أول الناس وروداً عليه فقراءُ المهاجرين، الشُّعثُ رؤوساً الدُنُس ثياباً، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتحُ لهم أبواب السُدَد([16])، فبكى عمر حتى أخضلت لحيته...)([17]).

قال ابن الجوزي (رحمه الله) في مواعظه: حتى متى يَبلغنا الوعاظ أعلام الآخرة! حتى كان النفوس عليها واقفة والعيونَ ناظرة، أقسم بالله العظيم لو رأيتَ القيامة تخفق بأهوالها والنار مشرفة على آلها، وقد وضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء لسَرَّك أن يكون لك في ذلك الجمع منزلة، أبعد الدنيا دار مُعْتمَل([18])؟ أم إلى غير الآخرة مُنتقل هيهات، صُمَّتْ الآذان عن المواعظ، وذهِلت القلوب عن المنافع، فلا الواعظ ينفع ولا الموعوظ ينتفع، هب الدنيا في يديك، ومثلها ضُمَّ إليك، فإذا جاءك الموت فما في يديك؟ ما ينتظر من ابيضَّتْ شعْرَته بعد سوادها، فرحم الله امرأ عَقل الأمر، وأحسن النظر، وهذه الدنيا كلها قليل والذي بقي منها قليل، والذي لك من الباقي قليل ولم يبق من قليلك إلا القليل، وقد أصبحتَ في دار العزاء، وغداً تصير إلى دار الجزاء)([19]).



[1] [العنكبوت:43].
[2] [جيل من الناس جنسهم وشكلهم واحد، الواحد زُطي].
[3] [أراد الثوب].
[4] [2296/ الترمذي].
[5] [953/ صحيح].
[6] [1276/ صحيح الترغيب والترهيب].
[7] [التيمي].
[8] [الكلام للجراح خالد جبير].
[9] [ص718/ من بدائع العريفي/ د. محمد العريفي].
[10] [3384/ السلسلة الصحيحة – 156/ الإعلام بآخر الكلام].
[11] [ق:31_35].
[12] [ينوي به وجوهَ الخير (بيد الله)].
[13] [خمارها].
[14] [الصحابة].
[15] [1/144/ جـ1/ حلية الأولياء].
[16] [الرتب وما يجلس عليه كالمنبر – في رواية الذين يعطون الحق الذي عليهم ولا يُعطون الذي له].
[17] [2444/ الترمذي – 5068/ صحيح الجامع].
[18] [أي ليس بعدها عمل، اليوم عمل وغدا حساب وجزاء].
[19] [ص330/ جـ8/ سير أعلام النبلاء/ الذهبي].