4‏/6‏/2013

حرمة البيوت، أدبٌ وذوق


حرمة البيوت، أدبٌ وذوق

 

قال تعالى: (( والله جعل لكم من بيوتكم سكنا ... )) ([1]).

يقولون: (جنة المؤمن داره) لأن فيها راحته وأمنه وزوجته التي يسكن إليها، ولا يحل لأحد أن يقتحم هذا الحرمَ الآمن إلا بإذن ساكنيه لأن ذلك عدوان على حرمة البيتِ لا يجوز بأي حال من الأحوال، وقد أدب الله U عباده المؤمنين بأدب رفيع في قوله تعالى: (( يأيها الذين امنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون )) ([2]).

وأعطى خصوصية في الأدب مع نبينا e فقال: (( يأيها الذين امنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق ... )) ([3]).

قال الإمام القرطبي (رحمه الله): (هذا أدبٌ أدبَ الله تعالى به الثقلاء). قال الثعلبي: (حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يتحملهم).

ومن حرمة البيوت حسنُ الاستئذان على أصحابها، فقد [كانت أبواب النبي e تقرع بالاظافير]([4]).

وقد ذكر أهل السير أن جماعة (اعنفوا –على محدثٍ- دَقّ الباب، فلم يحدثهم)([5]).

وجاءت امرأة إلى الإمام أحمد (رحمه الله) لتسأله عن شيء من أمور الدين، ودقت عليه الباب دقاً فيه بعض العنف فخرج وهو يقول: هذا دَقُّ الشُرَط).


وقد فهم الشيخ المفسر المحدث اللغوي أبو عبيدالله القاسم بن سلام (رحمه الله رحمة واسعة) من قوله تعالى: (( ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم )) ([6]). فهماً خاصاً فقال: ما استأذنتُ على محدث كنت أنتظره حتى يخرج إليَّ، وتأولتُ قوله تعالى: (( ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم ... )) ([7]).

ومن حرمة البيوت ما جاء عن عبدالله بن بُسْر t قال: (كان رسول الله e إذا جاء الباب يستأذن، لم يستقبله يقول: يمشي مع الحائط حتى يستأذن فيؤذن له، أو ينصرف)([8]).

قال أنس بن مالك t : (كان النبي e قائماً يُصلي، فاطلع رجل في بيته من خلل، فألقم عينه خصاصة الباب في حجرة النبي e فأخذ سهماً من كنانته فسَدَّد نحو عينيه ليفقأ عينه فأخرج الرجل رأسه – وفي رواية- فانقمع الأعرابي فذهب، فقال e: أما أنك لو ثبَتَّ لفقأتُ عينك)([9]).

ومن حرمة البيوت دخولها دخول الأمن والإيناس، قال أنس بن مالك t : قال لي رسول الله e: (يا بني إذا دخلتَ على أهلك فسَلم فيكون بركة عليك وعلى أهل بيتك)([10]).

كان من كلام أحد العلماء: (لا تدخل بيتك دخول المتخون الفاحص إنما دخول دخولَ المستأنس).

قال عبدالله بن الإمام أحمد (رحمه الله): (كان أبي إذا دخل البيت يضربُ برجله قبل أن يدخل الدار يُسْمِعُ ضربُ نعله وربما تنحنحَ ليُعلِم مَنْ في الدار بدخوله).

قال التابعي موسى بن طلحة بن عبيدالله (رضي الله عنهم): (دخلتُ مع أبي على أمي فدخل واتبعته فالتفت فدفع في صدري حتى أقعدني على الأرض وقال: أتدخل بغير إذن؟).

وما دامت وسائل الاتصال موجودة فمن الأفضل أن يُسأل صاحب البيت إن كان لديه وقت للزيارة أو حال تسمح بذلك، وقد استأذن الخليفة العباسي المهدي على الإمام مالك فلم يأذن له في الحال، وإنما استمهله ثم أذن له، فلما دخل المهدي البيت إعتذر له الإمام مالك قائلاً: يا أمير المؤمنين :إن العيال سمعوا لمجيئك فأحبوا أن يصلحوا منزلهم.

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: (( فان لم تجدوا فيها احدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وان قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو ازكى لكم والله بما تعملون عليم ))([11]).

 

الخطبة الثانية

أما حرمة البيوت الأخلاقية فشأنها عظيم جداً. قال محمد الخراساني: (نزل عندنا بجارة الخراسانيين([12]) شابٌّ حسن الوجه فصيحُ اللسان حافظ للقرآن والسُّنة من أهل بلخ، فجَلَّ([13]) في قلوبنا فأمَّنا في مسجدنا، وتوزعنا ما نكفيه من أموالنا فكنا نجلس عنده في المسجد كلَّ عَشيةٍ فإنا لجلوسٌ معه يوماً إذ طلع علينا كهل من الخراسانية، وفي يده خنجر مشهور، فلما رآه إمامُنا قام هارباً فعدا خلفه، فلم يزل يتوجَّؤه  بخنجره حتى قتله، فقبضنا عليه، فرفعنا بأجْمَعِنا إلى أحمد بن طولون، فقال: ما الذي حملك على ما أتيتَ؟ فقال: أعزَّ الله الأمير: كان هذا الرجل جاري ببخارى وكان حسن المجاورة ظاهر الستر، فألفته فدخلتُ يوماً من الأيام إلى منزلي على حين غفلة من أهلي فوجدته مفترشاً([14]) زوجتي ففزعتُ إلى السيف فهرَبَ فعدتُ إلى المرأة فقتلتها فأحضرني أهلها إلى السلطان فأطلقني وأمرني بطلب هذا الفاجر وقتله، فخرجتُ خلفه إلى أن بلغتُ مِصرَ فعرفتُ أن يُصلي في المسجد، فأخذتُ بطائلتي وشفيتُ نفسي([15])، قال الراوي: فسَألنا أحمد بن طولون عن المقتول لما رآه! ما الذي عمل؟ قلنا: لما نظر إليه قام يعدو هارباً منه، فقال له أحمد بن طولون: كثر الله في الناس مثلك، انصرف مكلوءاً([16]) فوّدعنا وخرج إلى بلده)([17]).

تعليق:

1-           التدخين في بيوت الناس لا يجوز إلا بإذنهم.

2-           أحسن أوقات الزيارة [عصراً].

3-           لا تكون الزيارة في أوقات الطعام أو الراحة.

4-           لا تصح المكالمات الليلية المتأخرة.

5-           لا تصح الزيارات بعد منتصف الليل.

6-           لا تصح الزيارات المحلة [زد غباً تزدد حباً].

7-           عدم جلب الأولاد في الدعوات الخاصة.

8-           دخول الناس إلى المطبخ بعد استئذان الأطفال خطأ فاحش!

9-           عدم مواجهة باب البيت عند إخراج الجنازة. وعدم المبيت والبقاء في بيوت الناس أيام الضراء.



[1] [النحل].
[2] [النور:27].
[3] [الأحزاب: ٥٣].
[4] [2092/ السلسلة الصحيحة].
[5] [1/267/ الجرح والتعديل/ ابن أبي حاتم].
[6] [الحجرات:5].
[7] [الحجرات:5].
[8] [874/ أبو داود/ مسند الشاميين].
[9] [ص195/815 / صحيح الأدب المفرد].
[10] [1608/ صحيح الترغيب والترهيب].
[11] [النور:28].
[12] [حي في القاهرة].
[13] [أي:ة عظم شأنه].
[14] [يعاشرها معاشرة الأزواج].
[15] [الثأر، العداوة].
[16] [أي: محفوظاً لا خوف عليك].
[17] [ص156/ سيرة ابن طولون/ محمد كرد علي].

3‏/6‏/2013

الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة


الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة

 

قال تعالى: (( ومن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ...)) ([1]).

من كلام نبينا e : (اشفعوا تؤجروا، فإني لأريد الأمر فأؤَخره كيما تشفعوا فتؤجروا)([2]).

استحبَّ الإسلام بذل الشفاعات، واعتبرها الناس زكاة الجاه، وحثت شريعة الله عليها ما دام فيها إنصافاً لمظلوم، أو حقاً لمعدوم، أو إصلاحاً في وجوه الخير معلوم، وكره الشفاعات السيئة التي تعين على الظلم والفساد، وهدر الحقوق، وتعطيل الحدود.

قال عبدالله بن عمرو t : (شهدتُ رسول الله وجاءته وفود هوازن فقالوا: يا محمد! إن أهلٌ وعشيرة فمُنَّ علينا منَّ الله عليك... وقام رجل فقال: يا رسول الله إنما في الحضائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كنَّ يَكفلنك، ولو أنا مَلحْنا([3]) للحارث بن أبي شِمْر أو للنعمان بن المنذر... لرجونا عطفه وعائدته علينا وأنت خير المكفولين([4]) فقال: اختاروا بين نسائكم وأموالكم وأولادكم، قالوا: خيّرتنا بين أحسابنا وأموالنا نختار أبنائنا، قال: فإذا صليتُ الظهر فقولوا: إنا نستشفع برسول الله e في نسائنا وأبنائنا، قال: ففعلوا، فقال رسول الله e: أما ما كان لي ولنبي عبدالمطلب فهو لكم وقال المهاجرون: ما كان لنا فهو لرسول الله e وقالت الأنصار مثل ذلك فقال رسول الله e: يا أيها الناس ردّوا عليهم نساءهم وأبناءهم)([5]).

(كان الخليفة المنصور معجباً بمحادثة (محمد بن جعفر) ولعظم قدْره يفزع الناس إليه في الشفاعات فثقل ذلك على المنصور فحجبه مُدَّة ثم لم يصبر عنه، فأمَر الربيعَ - حاجبَه- أن يكلمه، فكلمه وقال: اعفِ أميرَ المؤمنين ولا تثقل عليه في الشفاعات، فلما توجه إلى الباب اعترضه قوم من قريش معهم رقاع فسألوه إيصالها إلى المنصور فقصَّ عليهم فأبوا، فقال: اقذِفوها في كمّي، ثم دخل عليه –وهو مشرف على بغداد وما حولها من البساتين- فلما نهض ليقومَ بَدَتْ الرقاع من كمه، فجعل يردُّها ويقول: ارجعن خائبات خاسرات، فضحك المنصور وقال: بالله عليك إلا أخبرتني بهذه الرقاع، فأعلمه فقال: (ما أتيتَ يا ابنَ معلم الخير إلا كريماً) ثم تصفح الرقاع وقضى حوائج أصحابها)([6]).

ذكر تاريخ الأندلس: (أن بعض أصحاب الأمير الحكم بن هشام قام بتسَوّر جدار رجل اتهموه بالحركة، فصاح نساؤُه فسمع القاضي فرج بن كنانة –وكان جارَه- الصراخَ فقال: ما هذا؟ قِيل جارك فلان تعلق به الحرس فأخرجوه ليقتل، فبادَرَ الخروجَ وكف القوم عن جاره وقال لهم: إن جاري هذا بريء الساحة سليمُ الناحية، وليس فيه شيء مما تظنون، فقال له رئيس الحرس: ليس هذا من شأنك فعليك النظرُ في أحباسك وحكومتك،ودع ما لا يعنيك، فغضب القاضي ومشى إلى الأمير الحكم فأستأذن عليه، فلما دخل قال له بعد السلام: إن قريشاً حاربتْ رسولَ الله e وناصبته العداء في الله تعالى، ثم إنه صَفحَ عنهم لمّا أظفرهُ الله تعالى بهم وأحسن إليهم، وأنت أحق الناس بالاقتداء به لقرابتك منه ومكانك من خلافته في عباد الله! ثم حكى له قصة جاره، فأمر بتخلية سبيله وبعقاب الذي عارض القاضي، وعفى عند ذلك عن بقية أهل قرطبة وبسط الأمان لجماعتهم وردهم إلى أوطانهم)([7]).هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: (( ومن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ...)) ([8]).

 

الخطبة الثانية

حَدَّث طلحة بن عبيد الله بنُ قناش قال: (كنتُ يوماً في مجلس حديث بحضرة سيف الدولة الحمداني، أنا وجماعة من ندمائه فأدخل عليه رجل وخاطبه ثم أمر بقتله فقتل في الحال، فالتفتَ إلينا وقال: ما هذا الأدب السيئ؟ ما هذه المعاشرة القبيحةُ التي نعاشرُ ونُجالسُ بها؟ كأنكم ما رأيتم الناس ولا سمعتم أخبار الملوك، ولا تأدبتم بأدبِ دينٍ ولا مروءةٍ، قال: فتوهمنا أنه قد شاهد من بعضنا حالاً يوجب هذا، فقلنا: كل الأدب إنما يستفاد من مولانا –أطال الله بقاءه- وما علِمنا أنا عمِلنا ما يوجب هذا، فإذا رأى أن يُنعِم بتنبيهنا فعل، فقال: أما رأيتموني وقد أمرتُ بقتِل رجل مسلم لا يجب عليه القتلُ، وإنما حملتني السطوة والسياسة لهذه الدنيا النكدة على الأمر به طمعاً في أن يكون فيكم رجل رشيد فيسألني – الشفاعة له- والعفوَ عنه، فأعفو وتقوم الهيبة عنده وعند غيره فأمسكتم حتى أريق دم الرجل وذهب هدراً، قال: فأخذنا نعتذر إليه وقلنا لم نتجاسر على ذلك، فقال: ولا في الدِماء؟ ليس هذا بعذر، فقلنا: لا نعاود،واعتذرنا حتى أمسك).

قال مسعود بن الأسود t: (لما سَرَقت المرأة تلك القطيفة من بين رسول الله e أعظمنا ذلك –وكانت امرأة من قريش- فجئنا إلى النبي e نكلمه وقلنا: نحن نفديها بأربعين أوقية، فقال رسول الله e : تطهُر خيرٌ لها، فلما سمِعنا رسول الله e أتينا أسامة t فقلنا: كلم رسولَ الله e ، فلما رأى رسول الله e ذلك قام خطيباً فقال: ما إكثاركم عليَّ في حدٍ من حدود الله (عز وجل) وقعَ على أمة من إماء الله، والذي نفس محمد بيده لو كانت فاطمة بنت رسول الله e نزلت بالذي نزلت به لقطع محمد يدها)([9]).



[1] [النساء: ٨٥].
[2] [1464/ السلسلة الصحيحة].
[3] [متتنا بحرمة ومعاهدة، والملحة: الحرمة].
[4] [4/352/ البداية والنهاية].
[5] [1722/ السلسلة الصحيحة].
[6] [ص67/ جـ3/ قصص العرب].
[7] [ص53/ تاريخ قضاة الأندلس/ عبدالله الأندلسي المالقي].
[8] [النساء: ٨٥].
[9] [ص9.6/ جـ2/ مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة/ شهبا الدين الكنائي].