4‏/6‏/2013

التشجيع وصناعة الرجال


التشجيع وصناعة الرجال

 

قال تعالى: (( ... وقولوا للناس حسنا ...)) ([1]).

من كلام نبينا e : (لا أحدٌ أغيَر من الله ولذلكُ حَرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحدٌ أحبَّ إليه المدحُ من الله، ولذلك مَدَح نفسه)([2]).

قبل أربع سنوات قلتُ: قال علي طنطاوي (رحمه الله): (قرأتُ مرة أن مجلة إنكليزية كبيرة سألت الأدباءَ عن الأمر الذي يتوقفُ عليه نموُّ العلم وازدهارُ الآداب، وجَعَلتْ لمن يُحسِنُ الجوابَ جائزة قيّمة، فكانت الجائزة لكاتبةٍ مشهورة قالت: إنه التشجيع)([3]). أقول: هذا جواب صحيح، وتزداد فاعلية التشجيع إذا تلازم مع الصدق.

قال العِزُّ بن عبدالسلام (رحمه الله): (المدح المُباح لا يُكثِرَ منه، ولا يُتقاعَدُ عن اليسير منه ترغيباً للممدوح في الإكثار مما مُدِحَ به، أو تذكيراً له بنعمة الله عليه ليشكرَها بشرط الأمن عليه من الفتنة .

مدح الله نبيه e بقوله: (( وانك لعلى خلق عظيم )) ([4]). ومدح رسول الله e أصحابه تشجيعاً لهم وتثبيتاً على خلقهم، مدح أبا بكر وعمر (رضي الله عنهما) فقال: (هذان السمع والبصر) ([5]) ومدح عثمان t بقوله: (ألا استحي من رجل تستحي منه الملائكة)([6]) ومدح علي بن أبي طالب t بقوله يومَ خيبر: (لأعطِيَنَّ هذه الراية رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه اللهُ ورسولُه)([7]). ومن كلامه: (نِعْمَ الرجل أبو عبيدة، نِعْمَ الرجل معاذ بن جبل). التشجيع باب من أبواب صناعة الرجال.

تعليق:

1-           تشجيع الأولاد على الكلام لتنموا شخصياتهم وترك عزلهم عن حياة من حولهم لئلا يبتلوا بمرض التوحد والشعور بالنقص والوسواس القهري.

2-           الابتعاد كلياً عن القسوة في المعاملة من قِبل أهليهم ومعلميهم، لأن الجريمة ميراث القسوة.

3-           إن الزوجة والأولاد والخدم وضعفاء الناس يؤنسهم التشجيع الجميل ويُشعرهم بإنسانيتهم ويبعدهم عن الخيانة والخباثة والانتقام.

 

ذكر الدكتور عبدالأمير السماك في كتابه مذكرات وخواطر طبيب ما يأتي: (أثناء زيارتي لأحد المعاهد في دولة آسيوية كان هناك رجلٌ مَهيبُ الطلعة [مدير المعهد] آنست منه عِلماً واسعاً وخبرةً مُتميزة في عالم الطِب، سألتُ عنه مُرافقي: كم يكون عمر الرجل؟ قال: خَمّنْ؟ قلت: سبعون عاماً، قال: أكثر، قلت: خمسة وسبعون، قال: أكثر، قلت: وأنا متردد –ثمانون- قال: أربعة وثمانون عاماً، قلت: لمَ لمْ يتقاعد؟ قال: ما الذي دعاك إلى هذا القول؟ هل فيه عَوَقاً جِسمانياً! أم في الذاكرة في المعلومات؟ قلتُ:  لم أرَ شيئاً، قال: هذا مُشبَّع بالعلم والمعرفة والتجارب، لديه [كارت] فيما يحتاج إليه من مال وسكن وتنقلات، ودوامه غيرُ مرهون بوقتٍ مُحدد وله دار أنيقة خصَّصَتها له الحكومة وقد مضى على مركزه خمسون عاماً)([8]).

قال الدكتور يوسف القرضاوي: (إني لأنكِر على الإسلاميين أنهم لا يُعطون مُفكريهم وعلماءَهم وأدباءَهم ما يستحقون من تكريم وتقدير ينزلهم منازلهم، في حين يصنع العلمانيون هالات مُكبرة حول رجالاتهم حتى يجعلوا من الحبة قبة    ومن القطِ جملاً،

 

وصدق فيهم قول الشاعر:

وبقيت في خَلفٍ يُزيّنُ بعضُهم

                            بعضَاً ليدفع مُعورٌ عن مُعوِر)([9])

وفي عالم التربية يصنع التشجيع المعجزات، في ولاية إيوا رأتْ معلمة أحدَ الأطفال بطيء الدراسة فضلَّ مُهملاً حتى علِمَتْ المعلمة أن سَببَ تخلفِه ظروفه العائلية المعقدة، وخلافاتُ والديه، وجاء يوم من أيام الاحتفال وقدّم التلاميذ هديه لمعلمتهم، وجاء هو برُبع زجاجة عطر معها خَرَزَات لا قيمة لها، فأرادت المعلمة –في هذه المناسبة- أن تشجعه وتراعي شأنَ نفسه، فأخذت الخرزات التي أتى بها وتزينت بها، وتطيبت بالطيب الذي جاء به، فبدأ الطفل يتقدم حتى صار جراحاً من أمهر الجراحين في معالجة السرطان([10]).

قال أبو حامد الغزالي (رحمه الله): (إذا ظهر من الصبي خلق جميل وفعلٌ محمود فإنه ينبغي إن يُكرم عليه ويُجازى بما يفرح به ويُمدح أمامَ الناس لتشجيعه على الاخلاق    الكريمة).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( الم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء () تؤتي اكلها كل حين باذن ربها ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتذكرون )) ([11]).

 

الخطبة الثانية

قال عمر بن عبدالعزيز (رحمه الله): (أما بعد! فأيّما رجلٍ قدِم إلينا في رد مظلمةٍ، أو أمر يصلح الله به خاصاً أو عاماً من أمر الدين فله مائة دينار إلى ثلاثمِائة بقدر ما يُرى من الحِسبة وبُعْدِ السفر)([12]).

وذكر الدكتور عثمان السامرائي قال: (وجدتُ بعض الموظفين في دولة خليجية يعملون ليلاً من باب التطوع فكتبتُ ذلك لبعض الصحف فتجاهلتْ النشر وكتبتُ إلى المسؤولين عنهم طالباً التنويهَ والشكرَ ليتشجع غيرُهم فلم يستجب أحد، فما السبب؟ هذا حالنا)([13]).

وصدق فينا قول فخر الدين الرازي!

المرءُ ما دام حَياً يُستهان به      ويَعْظُم الرزءُ فيه حين يُفتقدُ

(حجَّ الرشيد فأدْخِل على الفضيل بن عياض (رحمه الله) فوعظه، فلما هم الرشيد بالانصراف قال له: يا أمير المؤمنين! أني أخشى... أن يكون العلم قد ضاع قِبَلك كما ضاعَ عندنا بالحجاز، قال الرشيد: أجل إنه ما قد قلتَ، فلما عادَ الرشيد كتب إلى الأمصار ليكتبوا: من التزم الأذان في ألف([14]) من العطاء. ومن جمع القرآن وأقبل على العلم وعمّر مجالس الأدب في ألف دينار. ومن جمع القرآن وروى الحديث وتفقه في العلماء واستبحر في أربعة آلاف من العطاء، فما بقي عالم ولا قارئ ولا سبّاق للخيرات ولا حافظُ    للحُرُمات في أيام رسول الله e وأيام الصحابة والخلفاء أكثر منهم في زمن الرشيد وكان الغلام يجمع القرآن في ثمان سنين، ويستبحرُ في العلم والفِقه ويَروي حديث رسول الله e ويجمع الدواوين ويناظرُ المعلمين وهو ابن إحدى عَشرة سنة)([15]).

قال أحد الشعراء الإغريق: (لا تضعوا الزهر على قبري، ولا تُشْعِلوا الأضواء، فكل هذه عبث، ولكنْ أحسنوا إليَّ ما دمتُ حياً).



[1] [البقرة: ٨٣].
[2] [3530/ صحيح الترمذي].
[3] [ص142/ فكر ومباحث/ علي طنطاوي].
[4] [القلم:4].
[5] [3608/ السلسلة الصحيحة].
[6] [3608/ السلسلة الصحيحة].
[7] [1637/ صحيح مسلم].
[8] [ص 179 – 180].
[9] [ص7/ الشيخ الغزالي كما عرفته/ القرضاوي].
[10] [من حديث إذاعي ذكره الشيخ سلمان فهد العودة].
[11] [إبراهيم:24_25].
[12] [ص126/
[13] [ص158/ دراسة في المعرفة/ د. نعمان السامرائي].
[14] [يعني: ألف دينار].
[15] [ص74/ من أقوال الحكماء/ جمال مشعل].

البطر وكفران النعم


البطر  وكفران النعم

 

قال تعالى: (( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وءاتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين () وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ))([1]).

من كلام نبينا e : (سيصيبُ أمتي داءُ الأمم، فقالوا: وما داءُ الأمم؟ قال: الاشرُ([2])، والبَطر، والتكاثر، والتناجُشُ([3]) في الدنيا، والتباغضُ، والتحاسد، حتى يكون البَغيُ)([4]).

كلُّ نعمةٍ إحسانٌ من الله على عبيده إن قابلوها بشكر وإحسان كما أحسن الله إليهم زادت وإن كُفِرتْ أورثتْ أصحابَها داءَ الأمم البطر والتناجش في الدنيا، والتباغض والتحاسد حتى يبتلوا بالبغي والاستطالة والظلم.

قال أهل العلم: (لا تدوم لبَطِرٍ نعمة)([5]). وهذا ينطبق على الأمم والشعوب والأفراد.

قال سعيد النورسي (رحمه الله): (مع اشراقة كل صباح يأمر   الله (عز وجل) جيوشاً جرارة من الديدان والحشرات والهوام والضواري والسباع ووحوش البر والبحر لتنظيف الأرض من المخلفات المادية [بلدية] ولسان حالها يقول: نظفنا الأرض من المخلفات المادية ولم يبق إلا المخلفات المعنوية وهي كفر الإنسان بنعمة الله تعالى).

قدّرتْ مصادر اقتصادية ما أنفقته بعض الدول العربية خلال صيف (2008م) على الأناقة والجمال بـ (1.7) مليار دولار، هذا فقط لمستحضرات التجميل. هذا الرقم يفوق ما تنفقه النساء في الدول التي تنتج هذه المستحضرات، بل هذا المبلغ يَسُدُّ جَوْعَه([6]) شعب كامل مثل بنكلادش).

قال الدكتور الداعية عبدالرحمن السميط([7]) (رحمه الله): (إن السبب وراء التحاقه بالفقراء إنه زار في يوم من الأيام أحدَ معسكرات الإغاثة في أفريقيا، ورأى بأم عينيه من ينقب في بيوت النمل بحثاً عما يأكله،

بينما ثرية عربية تبرعت بمليون دولار لتصميم فستان تزيّنهُ (2000) حبة زُمرُّد و (400) ماسة)([8]). إن كفران النِعم لا يُسقِطُ الأفراد وحدَهم إنما يُسقِطُ أمماً بكاملها.

حدث أبو الحسن أحمد بن يوسف (رحمه الله) قال: (لما دخل الديلم([9]) من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي من بغداد وخاف الناس السيفَ هربوا على وجوههم وكانت العذراءُ والمُخَبّأة المُترفة من ذوات النِعم والصّبية والأطفالُ والعجائزُ وسائر الناس يخرجون على وجوههم يتعادَون يريدون الصحراء، وكان ذلك اليوم حاراً فلا يطيقون المشيَ، قال أبو محمد الصُلحي - وهو من رجال مُعِزّ الدولة- : انهزمنا يومئذٍ مع ناصر الدولة نريد الموصل من بينِ يديّ مُعزّ الدولة فرأيت ما لا يُحصى من أهل بغداد قد تلِفوا بالحر والعطش. ونحن نركض هاربين فما شبهته إلا بيوم القيامة، قال: فأخبرني جماعة أنهم شاهدوا امرأة لم يُرَ مثلها في حُسن الثياب والحلي وهي تصيح: أنا ابنة فلان [بيتُ عظيم الجاه في دولة المقتدر] معي جوهر وحلي بألف دينار رحم الله من أخذ مني وسقاني شَرْبة ماء، فما يلتفت إليها أحد حتى خرَّت ميتة وبَقيتْ متكشّفة والثياب عليها والحلي وما يعرض له أحد،

وقد حُزِرَ([10]) ما انتهب من بغداد في ذلك اليوم فكان مقداره عَشَرة آلاف ألف دينار)([11]).

قال المفكر ديموستين: (إن المجال لاستخلاص الدروس من التاريخ متوفر دوماً لأولئك العقلاء من البشر) وقديماً قالوا: (لا يستحق لذة قراءة التاريخ من لم يقرأه للاعتبار).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن ءامن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون ))([12]).

 

الخطبة الثانية

قال تُبَّع بن زيد اليماني يوصي بنيه (أعلموا أنه ما استيديمتْ العاريّة بمثل صيانتها ورعاية حق المُعير فيها، فاحفظوا الله في جوار النِعم كيلا تعود نِقماً، فإنه إذا أوسف انتقم وإذا كوثر قصَم، ولا تبسُطنكم عليه دالة وإذا زللتم فاهربوا منه إليه، فليس عليه مجير ولا منه خفير)([13]).

قال علي عبدالجبار (رحمه الله): (زوّجتْ سِتُّ النساء بنت طولون جارية من جواريها فأنفقت في وليمتها مائة ألف دينار، فلم تلبث الكثيرَ من دهرها حتى رأيتُها في سوق بغداد تتعرض للسؤال فرآها بعض الأغنياء فعرفها فقال لها: أينَ ما كنتِ فيه من النعيم؟ قالْ: كنا نرصد نوائبَ الدهر فجاءتنا وتركت ديارنا بلاقع. قال: فما تشتهين؟ قالت: ملئَ بطني طعاماً. فقال: هذا وكيلي انصرفي إلى المنزل وأمر لها بعشرة آلاف درهم فقالت: يا أخي عليك بمالك بارك الله لك فيه، أما إنه قد كان عندنا أكثرُ من ذلك فلم يبق)([14]).

رحم الله من قال:

هي الأحوال إن نُبدِلْ نُبَدَّل    على أعمالِنا يُرْسى الجزاءُ

حَكى علامة حضرموت ومفتيها عبدالرحمن بن عبيد الله السقاف (رحمه الله) قال: (لما زرتُ قيدون في سنة 1329هـ دخل علي جماعة من آل العمودي في غرر مليحة ووجوه صبيحة، وقامات مديدة، وأجسام شديدة، وأفكار بعيدة، ولما سألتهم عن حالهم... ذكروا ما كان لهم من بسطة وصولة الملك في سائر البلاد ثم ضرب على أيديهم الدهر واسترد ما أعطتهم الأيام وما زالوا يشرحون لي الحال ويُكثِرون من التألم ويلتمسون مني الدعاء حتى اغرورقت عيني وتنَدّي خَدَّي، ولما رآني أحدُهم بتلك الرِقة قال: لا تحزن فقد كنا والله أهلاً لما نزل بنا، وما أصابنا إنما هو بما كسبت أيدينا فقد ولانا الله ولاية لم نحسن سياستها بل أبدلنا العدل جوراً، والحِلم جَهْلاً، ولم نشكر النعمة فسُلبتْ عنا)([15]).



[1] [القصص:76_77].
[2] [الاشَر: البَطر].
[3] [البغي: الاستطالة والظلم].
[4] [2614/ السلسلة الصحيحة].
[5] [من كلام مصطفى السباعي].
[6] [الفقر والحاجة].
[7] [رئيس لجنة العلوم المباشر في أفريقيا].
[8] [ص15/ المجلة العربية/ عدد: 347 سنة 30/ 1426 هـ - 2006م].
[9] [من سكان شمال بلاد قزوين الجبلية].
[10] [قدِّر وخمِنّ].
[11] [ص349/ جـ6/ المنتظم في تاريخ الملوك والأمم].
[12] [القصص:80].
[13] [ص140/ جمهرة وصايا العرب].
[14] [ص17/ عجائب الفِكر وذخائر العِبر/ محمد خير].
[15] [ص625 – 626/ العود الهندي].