6‏/6‏/2013

الهدية وسيلة محبة وليست وسيلة تجارية

الهدية وسيلة محبة وليست وسيلة تجارية
 
قال تعالى: (( واني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون )) ([1]).
من كلام e: (تهادوا تحابوا)([2]).
فتح هذا الدين كل وسائل المحبة والألفة بين الناس، وأمر بها وأوجبها عليهم، ومن هذه الوسائل: [ الهدية]، قال الجاحظ: (... ما أزيلتْ السخائم([3]) ولا اسْتدْفِعتْ المغارم بمثل الهدايا).
وقال أبو محمد عبدالله الساماني([4]): (الهدية ترد بلاء الدنيا، والصدقة ترد بلاء الآخرة) بل قال علي بن الجهم: (الهدية السحرُ الأكبر)([5]). وقد ( كان رسول الله e يُهدي ويقبل الهدية ويثيبُ عليها([6])).
والأصل في الهدية ألا يلاحظ فيها معنى انتظار المكافأة،وإلا أصبحتْ كالدَّين، والخير فيها ألا يلاحظ فيها أيضاً معنى العِوَض وإلا كانت لوناً من ألوان المُعاوضة ومتى كان كذلك فسَدَ معناها الذي يحقق المعنى الشرعيَّ، وخرَجَ من باب الهدايا إلى باب البياعات، ومن صلة مَوَدّة إلى معاوضات تجارية، وليس هذا مطلوبَ الشارع الحكيم. قال العلماء: (الهدية عطية عن طيب نفس بلا عوض). قال يحيى بن خالد: (ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها: الكتاب يدل على مقدار عقل كاتبه، والرسول على مقدار عقل مرسله، والهدية على مقدار عقل مهديها)([7]). وصدق قتادة t حين قال: (إنك لتعرف سُخْفَ الرجل من هديته).
حكى أحدهم قال: (رَقدتُ في المستشفى سَبعة أيام، وقبلَ أن أغادرها كان عليَّ أن أقومَ بعمليتين: عمليةِ دفع الحساب، وعملية التصرف بـ (40) طبق و (30) سيت زهور ولست أدري لماذا لا يُوفر الزوار على أنفسهم ثمن هداياهم ويكفيهم مجردُ إظهار مشاعرهم وتمنياتهم الطيبة، وإذا كان لا بد من الهدية، فلماذا لا يدفعون ثمن الهدية؟ لو أنهم فعلوا هذا معي لخرجتُ من العملية بما لا يقِل عن 200 جنيه كنتُ أدفعُ منها تكاليف العملية في المستشفى)([8]).
قال علي طنطاوي (رحمه الله): (أعرف رجلاً تزوجَ فأهديَ إليه في يوم زفافه من أصدقائه وأقربائه مائة وسِتَ عَشْرَة باقة زهر، فحار أينَ يضُعها! فكان مصيرُها المزابل)([9]).
وقد أشارت السنة النبوية إلى كراهة هدايا المعاوضات والمنافع المادية، فقد: (أهدى رجل من بني فزارة إلى النبي ناقة من إبله، فعوَّضه منها بعض العِوض فتسخطه، قال الراوي([10]): فسمعت رسول الله e على المنبر يقول: إن رجالاً من العرب يُهدي أحدهم الهدية فأعوضُه منها بقدرِ ما عندي، ثم يتسخطه فيظلُّ يتسخط فيه عليَّ، وأيمْ الله لا أقبل بعد مقامي هذا من رجل العرب هدية إلا من قرشيٍّ أو أنصاري أو ثقفيٍّ أو دوسيٍّ)([11]).
المثل الفرنسي يقول: (يُهدِي المرءُ بيضة ليُهدىَ إليه بقرة).
 
قلت: صدق حسان بن ثابت t:
إن الهدايا تجاراتُ اللئام وما     يرجو الكرامُ لما يُهدون من ثمن([12])
قال العلماء: (الهدية في ملائمتها وليس في قيمتها المادية). لقوله e: (لو أهدي إلي كُراع لقبلتُ)([13]).
قال حيدر قفه([14]) : (يبدو لي أنّ عِلة البغضاء التي تؤول إليها حالة التهادي كانت في الطمع وبالتالي المحاسبة عند حلول المناسبة، ولو أننا فهمنا معنى (تهادُوا تحابوا) على أنها الهدايا في غير المناسبات والتي لا تتطلب المعاملة بالمثل عند حلول المناسبة ذاتِها عند الطرف الآخر والتي تستدعي السِداد لكان أفضلَ وللمودةِ أدْوَمَ)([15]). وسأضرب لذلك نماذج:
1-      رجل يملك مزرعة فلما حان قطافُ الثمر تذكر أصدقاءه وأصحابه.
2-      رجل آخر وزع التقاويم ودفاتر المذكرات.
3-      رجل زار معرضاً فاستحسن كتاباً فاشترى نُسختين واحدة له وأخرى لصديق له يعلم أن هذا الكتاب يَسُرُّه وينفعه.
4-      رجل جاءته هدية كبيرة من بعيد فتقاسهما مع بعض أصحابه.
قلتُ: صَدَقَ من قال: (لا يشكرَنك الأعمى لمرآةٍ تهديه إياها).
هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ...)) ([16]).
 
الخطبة الثانية
قال العلماء: الهدية الطيبة إما تجلب محبة، أو تدفع بغضاء.
حكى الدكتور عائض القرني قال: (كان هناك صِحافي متخصص في نقدي والسخرية مني، فهممتُ أن أسلخه بمقالة، لكن الله سَلم وشجّعني بعضهم بالرد عليه، لكن اللهَ لطف، ثم بدا لي أن أتجاهلَ وأتغافلَ، وكأني ما سمعتُ ولا رأيتُ فأهديتُ بعض كتبي إليه مع بعض عباراتِ الثناء، فلما وصَلتْ الهدية تهلل واستبشر، ووالله ما مَرَّ وقت قصير إلا وهو يمدحني ويُثني علي في نفس الصحف التي سبني فيها، وصدق الله عز وجل: (( ... ادفع بالتي هي احسن ... )) ([17]))([18]).
 
 
ويستحب في الهدية أن لا يكون فيها كلفة على الطرف الآخر.. ويُبتعد عن الهدايا التي لا لزوم ولا فائدة فيها للطرف الآخر.. وأحسن الهدايا ما يؤكل أو يُشرب أو يُستفاد منه وما مثل الكتب القيمة، وقد أعجبني ما حكاه أبو الفوارس الدمشقي: (كنتُ يوماً عند السلطان صلاح الدين الأيوبي فحضر رسول صاحب المدينة على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم، ومعه هدايا، فلما جلس أخرج مروحة بيضاء وقال: الشريف يخدم مولانا السلطان ويقول: هذه المروحة من خوص النخل الذي في مسجد الرسول e فقبلها السلطان وقال لرسول صاحب المدينة: جزى اللهُ موفدَك خيراً)([19]).


[1] [النمل:35].
[2] [3004/ صحيح الجامع].
[3] [الضغائن].
[4] [وزير الراضي (ابن المقتدر)].
[5] [ص138/ لطائف المعارف/ للثعالبي].
[6] [4999/ جـ2/ صحيح الجامع].
[7] [2/251/ العقد الفريد].
[8] [ص203/ من حياتي/ يوسف السباعي].
[9] [في سبيل الإصلاح].
[10] [هو أبو هريرة t].
[11] [3946/ صحيح الترمذي – 1684/ السلسلة الصحيحة].
[12] [ص109/ جـ9/ قول على قول/ للكرمي].
[13] [5257/ جـ2/ صحيح الجامع].
[14] [كاتب أردني].
[15] [ص7/ نبضات قلم/ حيدر قفه].
[16] [الأحزاب: ٢١].
[17] [فصلت: ٣٤].
[18] [ص95/ السفينة].
[19] [مجلة لواء الإسلام/ عدد 2 / 1374هـ - 1955م].

العيش مع الله


العيش مع الله

 

قال تعالى: (( والفجر () وليال عشر ))[1].

عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله e : (ما من أيام العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام) يعني أيامَ العشر، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)([2]).

قال لي رجل: (لقد راجعتُ نفسي ليلة من الليالي فوجدتُ أن ما يقرب من 90% من أعمالي لم ابتغ فيها وجهَ اللهِ والدارَ الآخرة، إنما كانت أموراً اقتضتها المصلحة الشخصية، ليس لي فيها نية، هذا ما فهمته منه – وهو صادق-) قلت: قال مارتن لوثر كينج الصغير: (إذا لم يجد الانسان شيئاً يموت في سبيله فإنه لا يستحق أن يعيش).

يجب أن يكون لكل مسلم هدف يعيش من أجل الوصول إليه، رضا الله، والدار الاخرة، هكذا كان هدف سلفنا الصالح    (رضي الله عنهم أجمعين).

قال العلماء: (إذا لم يكن الهدف الذي تعمل من أجله حاضراً في ذهنك دائماً فربما تضِلُّ الطريق).

والعيش مع الله U في دائرة شريعة الله يوصل إلى هذا الهدف، فليست العظمة منصباً كبيراً ولا مالاً عريضاً، وإنما هي نفس توّاقة للخير الدائم، باحثة عن الأجر الموصل إلى الهدف.

قال الثعالبي (رحمه الله): (ما انصفَ نفسه من عرف الحشر والحساب، وزهد في الأجر والوثاب).

عب أبي هريرة t : (أنهم كانوا يحمِلون اللبن لبناء المسجد ورسول e معهم، قال: فاستقبلتُ رسول الله e وهو عارض لبنة على بطنه فظننت أنها قد شقت عليه، قلت: ناولينها يا رسول الله قال: خذ غيرها يا أبا هريرة فإنه لا عيشَ إلا عيش الآخرة)([3]).

وعن عبدالله بن مسعود t قال: (كنا يوم بدر، كل ثلاثة على بعير، -أي يتعاقبون- وكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله e قال: فكانت عُقبَة رسول الله e فقالا له: نحن نمشي عنك – ليظل راكباً- فقال: ما أنتما بأقوى مني([4]) عل المشي ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما)([5]).

قال سراقة بن مالك t: (أتيت رسول الله e بالجعرانة، فلم أدرِ ما أسأله عنه، فقلت: يا رسول الله! إني أملئ حوضي أنتظر([6]) ظهري يَردُ عليَّ، فتجيء البَهمَة([7]) فتشربُ، فهل في ذلك أجرٌ؟ فقال رسول الله e: لك في كل كبدٍ رطبة اجرٌ)([8]).

قال سعيد بن مرجانة –صاحب علي بن الحسين t- قال لي أبو هريرة t، قال النبي e: (أيما رجلٍ اعتق امرءاً مسلماً استنقذ الله بكل عضو منه عضواً من النار قال سعيد: فانطلقتُ به إلى علي بن الحسين t فعمد علي بن الحسين t إلى عبدٍ له قد أعطاه به عبدالله بن جعفر عشرة الاف درهم –او ألف دينار- فاعتقه)([9]).

نفوس تواقة للخير باحثة عن الأجر، مع سرور وأريحية في النفس لا مثيل لها، قال علي t: (... لأن أقضي لأمرئ مسلم حاجة أحَبُّ إلي من ملئ الأرض ذهباً وفضة)([10]).

(وجاء رجل إلى الحسن بن علي (رضي الله عنهما) فذكر له حاجته فخرج معه لحاجته، فقال له: أما إني كرهتُ أن أعَنّيك في حاجتي، فقال الحسن (رضي الله عنه): لقضاءُ حاجة أخٍ لي في الله أحب إليَّ من اعتكاف شهر)([11]).

قالت عائشة (رضي الله عنها): (أهدِيَتْ لرسول الله شاة قال: اقسميها، فكانت عائشة (رضي الله عنها): إذا جاءت الخادم- تقول: ما قالوا؟ تقول الخادم: قالوا: بارك الله فيكم، فتقول عائشة (رضي الله عنها)، وفيهم بارك الله، نَرُدُّ عليهم مثل ما قالوا، ويبقى أجرُنا لنا)([12]).

رحم الله من قال: (من ادعى العقل ولم تكن همته الآخرة فهو كاذب)([13]).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: (( واعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور )) ([14]).

 

الخطبة الثانية

قيل لأبي مسلم الخولاني (رحمه الله): حين كبر: (إنك قد كبرتَ ورققتَ، فلو رفقتَ بنفسك. قال: إذا أرسلتْ الحلبة([15]) قيل لفرسانها: ارفقوا بها، وسددوا بها، فإذا دنوتم من الغاية ((الهدف)) فلا تسْتبْقوا منها شيئاً فقد رأيتُ الغاية فدعوني)([16]).

قال الدكتور عائض القرني: (جلستُ مع علي طنطاوي في أواخر عمره، وقد أقعِدَ عن الحركة، وكانت دموعه تسابق كلماتِه كلما ذكر قصة أو ذكرى أو حدَّث بكى، وأخبرني انه لا يريد الآن إلا مغفرة الله ورحمته).



[1] [الفجر:1_2].
[2] [2/381/ البخاري]
[3] [ص458/ جـ1/ الثمر المستطاب بسند صحيح].
[4] [كان عمره آنذاك الخامسة والخمسين].
[5] [ص392/ جـ3/ صحيح الآدب المفرد].
[6] [أي: أنتظر أبل الركوب].
[7] [أولاد البقر والمعز والضأن].
[8] [2152/ السلسلة الصحيحة].
[9] [174/ صحيحة/ ص634/ جـ4/ التفسير الصحيح/ د. حكمت بشير].
[10] [3/317/ كنز العمال – ص751/ جـ2/ حياة الصحابة].
[11] [ص76/ جـ14/ تاريخ دمشق].
[12] [238/ الكلم الطيب].
[13] [ص43/ من أخلاق السلف/ د. أحمد فريد].
[14] [الحديد:20].
[15] [الدفعة من الخيل تجمع للسباق].
[16] [ص382/ المعرفة والتاريخ / أكرم العمري].