9‏/6‏/2013

الأنانية


الأنانية

 

قال تعالى: (( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة... )) ([1]).

عن المغيرة بن سعد عن أبيه قال: (أتيت النبي e بغرقد فأخذتُ بزمام ناقته أو بخطامها، فدفِعْتُ عنه فقال: دعوه مأرَبٌ([2]) ما جاء به، فقلت: نبِّئني بعمل يقربني إلى الجنة ويُبعدني من النار، قال: فرفع رأسه إلى السماء ثم قال: لئن كنتَ أوجَزتَ    الخُطبة، لقد أعظمْتَ أو أطولتَ، تعبُد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتحجُّ البيت وتصومُ رمضان وتأتي إلى الناس ما تحب أن يأتوه إليك، وما كرهت لنفسك فدع الناس منه... خلِّ عن زمام الناقة)([3]).

الأنانية مرض وبيل برئ منه سلفُ هذه الأمة، وظهر فينا بصورة فاحشة، والناجي منه قليل، قال سعيد النورسي      (رحمه الله): (لو تأملتَ مساوئَ جَمعية البشر، لرأيتَ أسَّ أساس جميع اختلاطاتها وفسادِها، ومَنْبَعَ كلِّ الأخلاق الرذيلة في الهيئة الاجتماعية كلمتين فقط:

إحداهما: إن شبعتُ فلا عليَّ أن يموت غيري من الجوع، والثانية: اكتسبْ أنتَ لآكلَ أنا، واتعبْ أنتَ لأستريحَ أنا)([4]).

قال عبدالله بن عمرو (رضي الله عنهما): (كنا مع رسول الله e في سفر فنزلنا منزلاً، فمِنّا من يُصلحُ خباءَه([5]) ومِنّا من يَنْتضِلُ([6])، ومِنا من هو في جَشَره([7])، إذ نادى منادِي رسول الله e الصلاة جامعة!!! فاجتمعنا إلى رسول الله e فقال: إنه لم يكن نبيٌّ قبلي إلا كان حقاً عليه أن يَدُلَّ أمته على خير ما يعلمه لهم، ويُنذرَهم شَرَّ ما يعلمُه لهم، وإن أمتكم هذه جُعِل عافيتها في أولِها، وسَيصيبُ آخرَها بلاءٌ وأمورٌ تنكِرونها، وتجيءُ فِتنٌ يٌرَققُ بعضُها بعضاً([8])، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن، هذه مُهلِكتي، ثم تنكِشفُ وتجيءُ الفتنة فيقول المؤمن هذه هذه، فمن أحبَ أن يُزحزح عن النار ويُدخلَ الجنة فلتأتِهِ مَنيّتهُ وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يُحِبُّ أن يؤتى إليه...)([9]).

 

لأهمية هذا الخلق العظيم، قال ابن عباس (رضي الله عنهما): لرجلٍ سَبّه في الحرم: (أتسُبني وفي ثلاث خصال، قال: وما هي؟ قال: والله ما نزل المطر بأرضٍ إلا سُررتُ بذلك وحمِدتُ الله على ذلك وليس لي ناقة ولا شاة، ولا سمِعتُ بقاضٍ عادل إلا دعوتُ الله له بظهر الغيب وليس لي عنده قضية، ولا فهِمتُ آية من كتاب الله (جل وعلا) إلا تمنيتُ أن المسلمينَ يفهمونها كما أفهم منها).

اشترى المسور بن مخرمة طعاماً كثيراً أعّده للبيع، فخرج من المسجد فرأى سحابَ الخريف فكرهه، فشقَّ عليه ما وقع في نفسه من كراهِيَتِهِ ذلك، فأمر بالطعام إلى السوق وقال: من جاءني وليْتهُ([10]) كما أخذتُ، فقال له عمر بن الخطاب t : ما السبب يا مِسْور؟ فقال: رأيتُ سحاب الخريف فكرهته، فرأيتُ أني كرهتُ ما ينفع المسلمين فأجمعتُ إلا أربحَ فيه شيئاً، فقال له عمر t : جزاك الله عن نفسك وعن المسلمين خيراً)([11]).

 

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( فوربك لنسألنهم اجمعين () عما كانوا يعملون ))([12]).

 

الخطبة الثانية

قال أحد العلماء الفرنسيين - بعد ما قرأ حديث نبينا e - (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه [من الخير])([13])، قال: لو عمِلَ المسلمون بمضمون هذا الحديث لأغلقتْ مُعظمُ المحاكم أبوابها.

إنّ علينا أن نوجه أولادنا ومَنْ حولنا للعمل بهذا المعنى الإنساني الذي تضمنه هذا الحديث الذي هو أحد الدعائم الأخلاقية التي يقوم عليها هذا الدين العظيم.

روى سيّار([14]) عن جده قال: قال لي رسول الله e : (أتحب الجنة؟ وقال: فأحِبَّ للناس ما تحِبُّ لنفسك).

 

قالت حفيدة علي طنطاوي (رحمه الله): (أحْضَرَ جدي علي طنطاوي ألواحاً من الحلوى وقطعها أحجاماً مختلفة – على غير عادته في العدل- وعندما لمحته ينظر إلى جهة أخرى، اغتنمتُ الفرصة وأخذتُ أكبرَ قطعة، فالتفتَ ونظر إليَّ بنظرة ذاتَ مَغزى وهو يقول: استأثرتِ بأكبر قطعة؟ فاستحييتُ وبكيتُ وامتنعتُ عن أكلها وجريتُ إلى الشرفة أتوارى وأتساءل: ماذا سيقول جدّي عني؟ أنانية!!! ليتني أخذتُ أصغر قطعة، وفجأة دخل بعدي وقال لي: أنتِ تفهمين المُراد، قلتُ: أنا مخطئة باختياري وأنت أخطأتَ بتقطيعك للحلوى بهذه الطريقة، فقال: نعم يا ابنتي، ولكنني أردتُ أن أعلمكم درساً وأنتِ لم تكوني يوماً أنانية، ولا أريدُ أن يعرفَ أحدٌ بهذه القصة، وكانتْ درساً لي لن أنساه أبداً، فمن يومها وأنا آخذ من الأشياء أقلها).

 



[1] [الحشر: ٩].
[2] [حاجة].
[3] [465/ جـ3/ السلسلة الصحيحة – 1477/ 4/76/  رواه الإمام أحمد في زوائد مسنده].
[4] [604/ المكتوبات].
[5] [شبه البيت من وبر أو صوف أو شعر ويكون من عمودين أو ثلاثة].
[6] [يسابق بالرمي بالنبل والنشاب].
[7] [الجشر: الدواب التي ترعى].
[8] [يصير بعضها رقيقاً، خفيفاً لعظم ما يعده].
[9] [1844/ مسلم – 668/ رياض الصالحين].
[10] [التولية في البيع: أن تشتري سلعة بثمن ثم توليها رجلاً آخر بذلك الثمن].
[11] [ص46/ رياض النفوس/ أبي بكر المالكي].
[12] [الحجر:92_93].
[13] [متفق عليه، والزيادة للنسائي ولأبي عوانة].
[14] [سيار بن عبدالله القشري].

ظلم الناس لبعضهم


ظلم الناس لبعضهم

 

قال تعالى: (( وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما )) ([1]).

عن أبي سعيد الخدري t قال: (على السِعْرُ على عهد رسول الله e فقالوا: لو قوَّمْتَ لنا سِعرنا!!! فقال: إن الله هو المقوّم أو المسَعِّر، إني لأرجو أن أفارقكم، وليسَ أحد منكم يطلبني بمَظلمةٍ([2]) في مال ولا نفسٍ)([3]).

لما قرأت هذا الحديث، قلت لنفسي! سبحان الله! صاحبُ المقام المحمود والشفاعة العظمى يتذمَّم من فِعل أمر يسير – وهو إمام الأمة- أين أصحاب الضمائر الحية الذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب؟؟؟

ما أعلم بلداً – في العالم كله- تهاون أبناؤه في قضايا ظُلم بعضهم بعضاً كهذا البلد، في أي نوع من أنواع الظلم نتكلم؟ أفي استحلال بعضهم دماءَ بعض؟ أم في أكل أموال غيرهم بغير حق؟ أم في الرشاوى والغش في المعاملات،

أم في قهر المستضعفين في السجون، أم في مظالم الزواج والطلاق والأولاد، أم في الدراسة والتدريس ومنح الشهادات؟

بدا لي اليوم أنَّ بعض الناس قد ماتت ضمائرهم لكثرة ما داسوها بموبقاتهم، تذكرتُ كلام الإمام القرطبي (رحمه الله) في تفسير آية النمل: (( حتى اذا اتوا على وادي النمل قالت نملة يايها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده ووهم لا يشعرون ))([4])، (قال القرطبي: أي من عَدْل سليمان وفضل جنده لا يَحطمون نملة فما فوقها إلا بألا يشعروا)([5]).

أعجبني جداً مثلٌ كردي مضمونه: (كلُّ حبل ينقطع إذا دَقَّ([6])  لكنَّ حبلَ الظلم ينقطع من غلظته). قال ابن الجوزي (رحمه الله): (من تأمل أفعال العباد رآها على قانون العدل، وشاهدَ الجزاء مُرْصداً ولو بعد حين...)([7]).

 

موازين القدر على البشر، كموازين الكون على الشمس والقمر، كلها تحت علم الله وسمعه وبصره لا تخفى عليه منها خافية، ومن يسكت عنه الله في ساعة من ليل أو نهار – وهو يلبس ثياب الظلم- فإن وراء ذلك ساعة البيات([8]) وأخذ الله أليم شديد.

حدثني أحد الأخوة قال: (في أيام الحرب العراقية الإيرانية أتهم أحدُ القواد عدداً من ضباط الارتباط – بلا دليل- فأمر بإعدامهم فوراً وهم يستغيثون ويدعون الله عليه، ولا من مجيب، قال: وفي اليوم نفسه عقد هذا القائد اجتماعاً مع ضباط ركنه فجاءت قنبلة وسقطت في حِضن القائد وحده من بين جميع ضباط ركنه فأصبح خبراً بعد حين).

(وقام أحد آمري الألوية بإعدام عدد من ضباط اللواء لتخاذلهم -على زعمه- أحدهم فلسطيني، يقول له: إن قيادتنا تأخرت في إرسالنا وأنا صاحب أطفال وزوجة خارج العراق، فبدأ به، وإذا بأمر من القيادة العامة يأمر بإعدام هذا الآمر لفشله في القيادة، قال: لقد قرأت بنفسي الرسالة التي أرسلها للقيادة العامة ومضمونها نفسُ ما جاء في رسالة القيادة العامة).

قال خالد بن حكيم بن حزام t : تناول أبو عبيدة t رجلاً من أهل الأرض بشيء([9])، فكلمه خالد بن الوليد t فقيل له: أغْضَبْتَ الأمير! فقال خالد: إني لم أردْ أنْ أغضبه، ولكن سمعت رسول الله e يقول: (إن أشدَّ الناس عذاباً عند الله يومَ القيامة أشدهم عذاباً للناس في الدنيا)([10]).

قال التاريخ: (كان القاضي عبدالله بن الحسين (رحمه الله) رجلاً صالحاً مُتوَدِّدَاً محمود الأمر مشكوراً في قضاياه عَجزَ في آخر عمره عن النهوض والحركة، فجاءه شخص بعد العِشائين([11]) وقال له: لي غريم([12]) في الحبس وقد أفرجتُ عنه، فقال: أدعُ لي أحَدَ الغِلمة([13]) يَمْض إلى الحبس ويطلقه الساعة، فقال: ما أرى أحداً من الغلمان فتوكأ على يديه ومضى إلى الحبس وأطلقه وعاد إلى منزله وقال: أما كان الله يطالبني بحبس هذا الرجل هذه الليلة، من لم يكن له ضمير حيَّ خاضع – ليل نهار- لرقابة الله (جل وعلا) فسوء العواقب أمامه بالمرصاد لا محالة).

 

لما قامت رابعة خاتون الجليلي (رحمها الله رحمة واسعة) ببناء جامِعها (جامع الرابعية) في الموصل علمت أن المُشرف على البناء أقصى([14]) أحدَ العمال عن العمل، ولما عملت أنه كان مظلوماً ما كان منها إلا أن استدْعَتْ ذلك العامل وأرضته وأعادته إلى العمل وأمرت بهدم ما بُنيَ من بنيان الجامع في ذلك اليوم)([15]).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( سنفرغ لكم أيه الثقلان )) ([16]).

 

الخطبة الثانية

ومن المروءة  بعد الذي قدمنا، نصرة المظلومين والتخفيف من معاناتهم بكل ما هو ممكن، حكى جواد المرابط – محافظ دمشق عام 1948م: (أيام النكبة في فلسطين فتحت المدارس والمساجد لإيواء اللاجئين، وسارت الأمور على ما يمكن أن تسير عليه، جاءني بعدها مختار قرية [عربين] فقال: كنا نظن أن قضية اللاجئين قضية أسبوعين أو عشرين يوماً –وهنيئاً لهم بما أخذوه من مؤونة دورنا-

ولكنَّ المدة تجاوزت ثلاثة أشهر، فأجبته بقولي: هل تعرف ما فعله الأنصار مع المهاجرين؟ فكان جوابُه بمنتهى الطيبة قال: إنه لشرف عظيم أن تكون للمسلم فرصة يُصْبحُ فيها بمنزلة الأنصار، سمعاً وطاعة)([17]).

من كلام نبينا e : (الظلم ثلاثة، فظلم يتركهُ الله وظلم يُغفر، وظلم لا يُغفر، فأما الظلم الذي لا يُغفر فالشرك لا يغفره الله، وأما الظلم الذي يُغفر فظلم العبد فيما بينه وبين ربه، وأما الظلم الذي لا يُترك فظلم العباد فيقتصُّ الله بعضهم من بعض)([18]).

ومن كلامه e: (يحشُر الله العباد –أو الناسَ- عراة غرلاً بُهماً، قلنا: ما بُهماً؟ قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه مَنْ بَعُدَ (أحسبُ قال: كما يسمعه من قرُبَ) أنا الملك لا ينبغي لأحد من أهل الجنة يدخلُ الجنةَ وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة، قلتُ([19]): وكيف؟ وإنما نأتي الله عراةً بُهماً؟ قال: بالحسنات والسيئات)([20])



[1] [طه:111].
[2] [ما تطلبه من عند الظالم مما أخذه منك].
[3] [11809/ أحمد – 2480/ صحيح الجامع/ الطيالسي].
[4] [النمل:18].
[5] [تفسير القرطبي].
[6] [ضد غلظ].
[7] [ص24// صيد الخاطر].
[8] [الهجوم ليلاً].
[9] [أي عاقبه].
[10] [1442/ جـ3/ السلسلة الصحيحة].
[11] [العتمة والمغرب].
[12] [أي: مَدين].
[13] [جمع غلام والمراد هنا العبد والأجير].
[14] [أي: أبعده عن العمل واستغنى عنه].
[15] [ص65/ البصائر/ ميسر بشير المحامي].
[16] [الرحمن:31].
[17] [ص60/ عبر وعظات/ جواد المرابط].
[18] [1056/ السلسلة الصحيحة].
[19] [الكلام لجابر بن عبدالله راوي الحدي].
[20] [746/ صحيح الأدب المفرد].