9‏/6‏/2013

العلاقة بين الراعي والرعية


العلاقة بين الراعي والرعية

 

قال تعالى: (( ... ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين )) ([1]).

عن أبي السَوّار العدوي t قال: (رأيت رسول الله e والناس يتبعونه، قال: فاتبعته معهم، قال: ففجَئنِي القومُ يَسْعَون وأتى عليَّ رسولُ الله e فضربني ضربة إما بعسيبٍ أو قضيب أو سواكٍ أو شيءٍ كان، فوالله ما أوجعني، قال: فبتُّ بليلة([2]) وقلت: ما ضربني رسول الله e إلا لشيء عَلِمَهُ الله U فيَّ وحدثتني نفسي أنْ آتِيَ رسولَ الله e إذا أصبحتُ، فنزل جبريل u على النبي e فقال:  إنك راعٍ، لا تكسِرْ قرون رعيتك...)([3]).

قال علماء الاجتماع: (إن فتح الأرض لا يطول إن لم تُفتحْ قلوبُ أهلِها بالإحسان لا بالإرهاب والإغراء، فليعتبر ذلك الراعي والرعية)([4]).

 

أقول: من حق الشعوب أن تطالبَ بحقوقِها وَفقْ القوانين المرعية، ومن واجب الحكام إعطاءُ هذا الحق الذي لهم، وليس من حق الشعب أنْ يكون طلبُه بالقتل وإراقةِ الدِماءِ وتخريبِ الممتلكاتِ العامة، كما أنه ليس من حق الحكومة السكوتُ عن المظالم التي قد تؤدي آثارُها إلى خرابِ البلاد والعباد، ولا يسلم منها حاكم ولا محكوم، ويصدق فيها قولُ دريد بن الصِّمة([5]):

أمَرْتهم أمري بمُنْعَرَج اللوى([6])

                               فلم يستبينوا الرُّشدَ إلا ضحى الغدِ

كتب الإمام الطرطوشي (رحمه الله): (... أيها الملك الذي كتب الله عليه الغناء والعُمُرَ القصير كيف أرَدتَ أن يصفوَ لك من الرعية ما لم يصف منهم لخالقهم ورازقهم ومحييهم ومييتهم، هيهاتَ هيهاتَ! بعيدٌ ما أمَّلتَ ومستحيلٌ ما طلبتَ ولكَ في الله أسوة حسنة أن ترضى منهم بما رضي منهم خالقهم،وتسير فيهم بسيرة ربهم فيهم...).

 

قال الإمام الطرطوشي (رحمه الله): (ينبغي للسلطان أن لا يتخِذ  الرعية مالا وقِنية([7]) فيكونو عليه بلاءً وفتنة، ولكن يتخذهم أهلاً وإخواناً فيكونون له جنداً وأعواناً، وقد سبق المثلُ: إصلاح الرعية خير من كثرة الجنود)([8]).

قال الإمام علي بن أبي طالب t: (لا تكتم صيحات الشعوب بقوة النار والحديد لكنها تسكت بالعدل)([9])، قال الخليفة المأمون العباسي، وقال: (بلوتُ رعيتي بالكرم والسيف فكان الكرم فيها أنجح)([10]).

حَدَّث رجل من ثقيف قال: (استعملني علي بن أبي طالب t على [عَكبَرا] – بلد في العراق- ولم يكن السواد([11]) يسكنه المصلون – أي المسلمون- فقال لي: لا  تبيعنَّ لهم رزقاً يأكلونه، ولا كسوة شتاءٍ ولا ضيف، ولا تضرنَّ رجلاً منهم سوطاً في طلب درهم فإنا لم نؤمر بذلك، ولا تبيعنَّ لهم دابة يعملون عليها، إنّا أمرنا أنْ نأخذ منهم العَفوَ، قال: إذن أجيئك كما ذهبتُ، قال: وإنْ فعلتَ).

قال كونفوشيوس – حكيم الصين- : (إن الرعية إذا قدتها بالأحكام الصارمة فستحاول التخلص منها – وهي غير مستحية من مخالفتها- وإذا قدتها بالفضائل وأصلحتها بالآداب تستحي من ارتكاب الجرائم، وإن أول الأسس التي يعتمد الحاكم عليها هي ثقة الرعية لأنها أساس قوة الحكم، وهو من غيرها إرهاب وقسر وعنت يولد الخوف).

قال هذا المعنى محمد حبيب العبيدي (رحمه الله): (ما أهلك
أمة مثلُ فقدانِ الثقة ما بين رجالها، ولعلها كلمة عراقي مجرب).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: (( ... وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ))([12]).

 

الخطبة الثانية

قال أبو سعيد الثعلبي (رحمه الله): (لما خرج إبراهيم ومحمد على أبي جعفر المنصور أرادَ أهلَ الثغور أن يعينوه عليهما فأبَوا ذلك فوقع في يد ملك الروم الألوف من المسلمين أسرى، وكان ملك الروم يحب أن يفاديَ بهم ويأبى أبو جعفر فكتب الإمام الأوزاعي (رحمه الله) إلى أبي جعفر كتاباً جاء فيه: [أما بعد فإن الله تعالى استرعاك أمرَ هذه الأمة لتكون فيها بالقسط قائماً وبنبيه e في خفض الجناح والرأفة متشبهاً، وأسأل الله تعالى أن يُسكِنَ على أمير المؤمنين دهماء([13]) هذه الأمة ويرزقه رحمتها فإن سايحة المشركين غليت عام أول وموطؤهم حريم المسلمين واستنزالهم العواتق والذراري من المعاقل والحصون، وكان ذلك بذنوب العباد وما عفا الله عنه أكثر، لا يَلقون لهم ناصراً كاشفاتٍ عن رؤوسهن وأقدامهن فليتق الله أمير المؤمنين وليتبع بالمناداة بهم ليخرج من حجة الله، فإن الله تعالى قال لنبيه e: (( وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ... ))([14])، وقد بلغني عن رسول الله e انه قال: [إني لأسمعُ بكاء الصبي – خلفي في الصلاة- فأتجوَّزُ في الصلاة مخافة أن تفتتن أمّه]([15]) فكيف بتخليتهم في أيدي عدوهم يمتهنونهم ويكشفون منهم ما لا نستحِله إلا بنكاح، وأنت راعي الله والله تعالى فوقك ومسْتوفٍ منك يوم توضع: (( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وان كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ))([16]).] فلما وصل إليه كتاب الإمام الأوزاعي أمر بالفداء)([17]).

آخر الكلام: قال ابن الجوزي (رحمه الله): (إياك أن تستطيل زمن البلاء فإنك مبتلى بالبلاد متعبدٌ بالصبر والدعاء... فإذا أغلِقتْ عليك الأبواب فترقبْ من الفتاح فتح الباب فما سَدَّ الخلق طريقاً إلا وفتحه الخالق إنفراداً بربوبيته وتعززاً بإلوهيته، فلا تقنط من رحمته ولا تيأس من رَوْحِه وعليك بـ (( ... وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا )) ([18]).

 



[1] [الأعراف: ٨٩].
[2] [أي: لم أنمْ قلقاً].
[3] [510/22/ رواه أحمد بسند جيد].
[4] [ص191/ جـ2/ مجلة الإيمان/ 1420 هـ - 1999م].
[5] [شاعر جاهلي].
[6] [مكان قتل فيه أخو دريد].
[7] [المال المكتسب].
[8] [ص211/ سير الملوك/ الطرطوشي].
[9] [ص130/ في زمن المحن/ نوال السباعي].
[10] [ص345/ من أقوال الحكماء/ جمال مشعل].
[11] [الأرض الزراعية/ بين دجلة والفرات].
[12] [الأعراف: ٧٩  ].
[13] [جماعة الناس (العامة)].
[14] [النساء: ٧٥].
[15] [2484/ صحيح الجامع الصغير].
[16] [الأنبياء:47].
[17] [ص135/ جـ6 / حلية الأولياء].
[18] [النساء: ٤٥].

أمانة الحكم ورقابة الولاة


أمانة الحكم ورقابة الولاة

 

قال تعالى: (( وقفوهم إنهم مسئولون )) ([1]).

من كلام نبينا e : (إن الله سائلٌ كلَّ راع عما استرعاه حفِظ أمْ ضيّعَ حتى يُسأل الرجل عن أهل بيته)([2]).

أمانة الحكم من أثقل الأمانات والصراع عليها من أخطر الصراعات، زهد فيها سلف هذه الأمة وحرص عليها اليوم من لا يدرك عواقبها عند الله، طلبها أبو ذر t فقال: (يا رسول الله! ألا تستعملني؟ قال: فضربَ على منكبي ثم قال: يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها...)([3]).

كان أحد  أمراء عُمان يأخذ لحماً من قصاب فصار عليه الثمنٌ خمسمائة محمديّة (عملة فضية) فماطل بها فمضى القصاب إلى الشيخ سليمان بن ناصر العماني فشكا إليه ما جرى فأعطاه الخمسمائة، فلما كان يوم الجمعة تماسك الشيخ ومن معه عن الذهاب إلى المسجد، فلما هبط الإمام أحمد بن سعيد
(الحاكم) إلى المسجد لم يَرَ الشيخ، فلما قضى الصلاة قصده فتصافحا فقال الإمام: لقد أوحشتَ الناس بتخلفك عن الصلاة فما عندك أخبرني؟ فأخبره عن صنيع أمير العسكر وقال له: هل يسعنا أن نصلي خلف إمام أهمل حق رعيته فصاروا يُظلمون ويُهضمون، فقال الإمام: طب نفساً فبعث الإمام إلى أمير العسكر، فلما أتاه قال له: يا خبيث! ما الذي فعلت؟ فتلجلج لسانه وكان يموت من الفزع فأمَرَ عليه بالقيد، وتسليم ما عليه من الحق للقصاب، فلما كان يوم الجمعة الثانية قال الشيخ للإمام: الآن طابت نفسي، فتفضل بإطلاقه من القيد والحبس، فقال الإمام: هيهات أن أطلِقه حتى تمضيَ عليه سنة من يومنا هذا، فمكث في الحبس سنة ثم أطلقه وعزله)
([4]).

قال ابن عباس (رضي الله عنهما): (دخلتُ على علي بن أبي طالب t - وهو يخصِف نعله- فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟ فقلتُ: لا قيمة لها، فقال: والله هي أحبُّ إليَّ من إمرتكم إلا أن أقيم حداً من حدود الله، أو أدفع باطلاً)([5]).

وأول أمانات الحكم استكفاء الأخيار في مراكز المسؤوليات، لئلا يظلموا الناس فيكونَ ذلك إيذاناً بزوال الملك، وقد قال محمد مهدي البصير (رحمه الله): (لا شيء أخطرَ على مجتمع من تباغض محكوميه وحكامه).

قال الخليفة العباسي المأمون: (ما فتق عليَّ فتقٌ في مملكتي إلا كان سبُبه جَوْرَ العمال). وقد كتب والي خراسان إلى عمر بن عبدالعزيز (رحمه الله) بعد كثرة الشغب وانتشار الجريمة (أطلق يدي فيهم أؤدِّبهم، فرَدَّ عليه الجواب بقوله: كذبتَ إنما يصلحهم العدل)([6]). وكتب المأمون في قصة متظلم من عامله محمد بن الفضل الطوسي: (قد احتملنا بذاءَك وشكاسة خلقِكَ، أما ظلمُك للرعية فإنا لا نحتمله)([7]).


وقد حرص العقلاء على تثبيت دعائم ملكهم بحسن اختيار عمّالهم، قال الربيع بن يونس([8]) للمنصور: (إن لفلان حقاً فإنْ رأيتَ أن تقضيه وتوليه ناحية فقال: يا ربيع! إن لاتصاله حقاً في أموالنا لا في أعراض الناس وأموالهم، إن لا نولي للحرمة والرعاية بل للاستحقاق والكفاية، ولا نؤثِرُ ذا النسب والقرابة على ذوي الدراية، فمن كان منكم كما وصفنا شاركناه في أعمالنا...).

قال أبو موسى الأشعري t: (أقبلتُ إلى النبي e ومعي رجلان من الأشعريين أحدهما عن يميني والآخر عن يساري - ورسول الله e يستاكُ- فكلاهما سألا العمل، قلتُ: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرتُ أنهما يطلبان العمل، فكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصَتْ([9])، فقال رسول الله e: إنا لا أو لنْ نستعين على عملنا من أراده، ولكنْ اذهب أنتَ فبعثه إلى اليمين ثم أردفه معاذ بن جبل t)([10]).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( فوربك لنسألنهم أجمعين () عما كانوا يعملون ))([11]).

 

الخطبة الثانية

قال أهل الحكمة: (أسرع الخصال في هدم السلطان وإفساده إظهار المحاباة لقوم دون قوم...). عن عبدالمطلب بن ربيعة t قال: (اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبدالمطلب (رضي الله عنهما) فقالا: والله لو بعثنا هذين الغلامين [قال لي وللفضل بن عباس (رضي الله عنهما)] إلى رسول الله e فكلماه فأمَّرَهما على هذه الصدقات، فأديا ما يؤدي الناسُ وأصابا ما يصيبُ الناس، قال: فبينما هما في ذلك جاء علي بن أبي طالب t فوقف عليهما فذكرا له ذلك، فقال علي: لا تفعلا فوالله ما هو بفاعل فانتحاه([12]) ربيعة فقال: والله ما تصنع هذا إلا نفاسة([13]) منك علينا، فوالله لقد نِلتَ صِهرَ رسول الله e فما نفِسنا عليك، قال علي: أرسلوهما فانطلقا واضطجع علي t، قال فلما صلى رسول الله e الظهر فسبقاه إلى الحجرة فقمنا عندها حتى جاء فأخذ بآذاننا ثم قال: أخرجا ما تصَرِّران([14]) ثم دخل ودخلنا عليه - وهو يومئذ عند زينب بنت جحش           (رضي الله عنها)- قال: فتواكلنا الكلامَ ثم تكلم أحدُنا فقال: يا رسول الله! أنتَ أبرُّ الناس وأوصل الناس، وقد بلغنا النكاح فجئنا لتؤمِّرنا على هذه الصدقات فنؤدي إليك كما يؤدي الناس ونصيب كما يصيبون، قال: فسكتَ طويلاً حتى أردنا أن نكلمه. قال: وجعلتْ زينب تلمِعُ([15]) إلينا من وراء الحجاب، أن لا تكلماه، قال: ثم قال: إن الصدقة لا تبتغي لآل محمد e إنا هي أوساخ الناس، أدعُو لي مَحْمِيّة([16]) ونوفلَ بن الحارث. قال: فجاءاه فقال لمَحْمِيّة: أنكح هذا الغلامَ ابنتك فانكحه وقال لنوفل: أنكح هذا الغلام ابنتك([17]) [لي] فانكحني وقال لمَحْمِيّة: أصْدِق عنهما من الخمس كذا وكذا)([18]).           



[1] [الصافات].
[2] [1966/ صحيح الترهيب].
[3] [1204/ مسلم – 7825/ صحيح الجامع وفيه زيادة].
[4] [ص354/ الفتح المبين/ حميد بن محمد].
[5] [ص349/ القول الجلي في الإمام علي/ د. موفق].
[6] [ص29/ سِرُّ بكائي].
[7] [ص267/ جـ4/ العقد الفريد].
[8] [وزير المنصور].
[9] [إنزوت عُلواً].
[10] [1071/ صحيح الترغيب].
[11] [الحجر:92_93].
[12] [أي: عرض له وقصده].
[13] [أي: حسداً وظناً منك أنا لسنا أهلٌ لذلك].
[14] [أي: تجمعان في صدوركما من الكلام].
[15] [أي: تشير بيدها أو بثوبها].
[16] [كان على الخمس].
[17] [للفضل].
[18] [516/ مسلم].