11‏/6‏/2013

استقامة الحكام سبيل إلى استقامة المحكومين


استقامة الحكام سبيل إلى استقامة المحكومين

 

قال تعالى: (( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا انه بما تعملون بصير )) ([1]).

قال أبو ذر t : (كنتُ مخاصِرَ([2]) النبي e يوماً إلى منزله فسمعته يقول: غيرُ الدجال أخوف على أمتي من الدجال، فلما خشيت أن يدخلَ، قلتُ: يا رسول الله! أي شيء أخوف على أمتك من الدجال؟ قال: الأئمة المضلين([3]) - وفي رواية- إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)([4]).

خارج دائرة السياسة والسياسيين عاش العرب والكرد والسُنة والشيعة وباقي الملل في هذا البلد وَفق ما يملي عليهم دينُهم وعقلائهم، فلما فرَضَ العالم الغربّيُ فروضَه السياسية على مراكز الحُكم مزقوا وحدة هذا البلد بالأحزاب والقوميات والمذاهب الدينية والعرقية والديمقراطية المزيفة فأوجدوا مجتمعَ الكراهية وسحقوا ركائز الألفة بين مكونات هذا البلد الجريح.

عن حّيّة بنتِ أبي حّيّة (رحمه الله) قالت: (دخل عليَّ رجل بالظهيرة، قلتُ: ما حاجتك يا عبدَ الله؟ قال: أقبلتُ أنا وصاحب لي في بُغاءِ إبل لي، فانطلق صاحبي يبغي ودخلتُ في الظِل استظل وأشربُ من الشراب. قالت: فقمتُ إلى لبيْنةٍ لنا؟ حامضة وربما قالت ضيخةٍ([5]) حامضة، فسقيته منها ثم توسّمْتُه([6]) وقلتُ: يا عبدالله: من أنتَ؟ قال: أبو بكر t قلتُ: أبو بكر صاحبُ رسول الله e ؟ قال: نعم، فذكرتُ له غزونا خثعم في الجاهلية، وغزو بعضا بعضاً وما جاء الله تعالى به من الألفةِ هكذا - وشبك الراوي أصابعه- فقلت: يا عبدالله! متى أمرُ الناس هكذا؟ قال: ما استقامت الأئِمة)([7]). لذلك قال الفضيل بن عياض (رحمه الله): (لو كانت لي دعوة مستجابة لما جعلتها إلا في إمام([8]) لأن الإمام إذا صلح صلح العبادُ والبلاد). فقام عبدالله بن المبارك (رحمه الله) وقبّلَ رأسه وقال: يا معلم الخير! من يستطيع أن يقولَ مثل ذلك، ومن يُحسنُ هذا غيرُك؟).

وهذا سفيان الثوري يقول لأبي جعفر المنصور الخليفة العباسيِّ (إني لأعلمُ رجلاً إن استقام استقامت الرعية! قال: من هو؟ قال: أنتَ). هذا المعنى قاله حكيم الصين كونفوشيوس، قال: (لم يحدث قط([9]) أنْ وجد حاكم يحب الخير، وتعجزُ رعيته عن حب الاستقامة، ولا حدث قطُّ أن أحبَّ شعبٌ الاستقامة إلا ودُبِّرتْ أمور الدولة بنجاح). ومتى ما شعرت الأمة باستقامة أئمتها وحُسن نيتهم عليها استقامت وأدت ما كلفتْ به واستحيت من المخالفة. وفي هذا الظرف العصيب لا بد لي أن أذكركم – وأنتم تطالبون ببعض حقوقكم-  أنت تكون طلباتُكم منضبطة بضوابط الشرع بعيدة عن الكلام الفاحش، والإشارات البذيئة والتحريض على الشر، فإن ذلك يولد أخطرَ العَنَتِ- وهو العنتُ السياسي- وأخطره ما كان في مراكز الحكم، وهذا باب إذا فتح فلا تسأل عن هلكة الأمة، وهذه سوريا أمام العيون، حمى الله جل وعلا شعبها من كيد الكائدين. وقد ذكرت قبل ثلاثة أشهر: كلاماً للإمام علي بن أبي طالب t واعظاً أصحابه: (... إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم كان أصوبَ في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم اللهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم). ورحم الله الحسن البصري القائل: (والله لو أن الناس إذا ابتلوا([10]) صبروا ما لبثوا أن يرفع الله ذلك عنهم وذلك أنهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه،

والله ما جاء بيوم خير قط ثم تلا: (( ... وتمت كلمة ربك الحسنى على بني اسرائيل بما صبروا ))([11]))([12]). هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعاى: (( ... وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا عمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا واليه المصير )) ([13]).

 

الخطبة الثانية

عن شريح بن عبيد الحضرمي (رحمه الله) قال: ((جلد عياض بن غَنْم صاحبَ([14]) دارين([15])t  حين فتحت فأغلظ له هشام بن حكيم القولَ حتى غضب عياض ثم مكث ليالي فأتاه هشام فاعتذر إليه ثم قال هشام لعياض: ألم تسمع النبي e يقول: (إن من أشد الناس عذاباً أشدهم عذاباً في الدنيا للناس) فقال عياض بن غنم: يا هشام بنَ حكيم قد سمعنا ما سمعتَ ورأينا ما رأيتَ أولم تسمع رسولَ الله e يقول: من أرادَ أن ينصح لذي سلطان بأمر فلا يبد له علانية ولكن ليأخذ بيده فيخلو به فإن قبلَ منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه له)([16]).

قال علي طنطاوي (رحمه الله): (دخلنا على أديب الشِيشكلي([17]) فأحسن استقبالنا واستمع مِنّا، فقال الشيخ الإبراهيمي كلاماً جيداً صريحاً صادقاً، ولكنه مهذب ثم تسلم الكلام [نواب صفوي]([18]) فقال بلهجة المهاجم، المقاتل: أنت تخالف الإسلام وتحارب العاملين به وكذا وكذا كلاماً ما كنت أحسَبُ أنَّ رجلاً يواجه به آخر من عامة الناس في لقاء معه أول مرة، وكان العقيد الشيشكلي مبتسماً ما اختلجتْ عضلة في وجهه، وكان يلحظنُي بطرف عينه خِلسة، كأنه يقول: أهؤلاء الذين جئتني بهم وسألتني الاجتماعَ معهم؟ وكأني أحسست في نظره تهديداً ووعيداً، فلما خرجنا من عنده - وقد شيّعنا إلى الباب- قال لي نواب صفوي: ما رأيك؟ ينتظر مني أن أقول له [الله يعطيك العافية] فقلتُ: [الله لا يعطيك العافية] فصُدِمَ وقال: لماذا؟ قلت: إن الله لما بعث موسى وهارون إلى فرعونَ قال لهما: (( فقولا له قولا لينا ))([19] ( فهل أنت خير من موسى، أمْ هو شرُّ من فرعون، أمْ أنتَ لا تعرف آدابَ الخِطاب)([20]).

 



[1] [هود:112].
[2] [أي: أمشي إلى جنبه أو ماسكاً خصره].
[3] [أخرجه الإمام أحمد/ 5/345].
[4] [2229/ صحيح الترمذي].
[5] [العنز: اللبن الخاثر يصب عليه الماء وثم تشرب (شنينة)].
[6] [نظرت إلى وسمه].
[7] [2076/ جـ3/ المطكالب العالية في زوائد المسانيد الثمانية/ 29/ الدارمي].
[8] [أي: والي، أو سلطان، أو خليفة].
[9] [ظرف زمان لاستغراق الماضي].
[10] [أي: من قبل سلطانهم].
[11] [الأعراف: ١٣٧].
[12] [ابن سعد بسند حسن].
[13] [الشورى: ١٥].
[14] [واليها].
[15] [قرية في لبنان].
[16] [رواه أحمد/ 304/4 – وصححه الألباني – 1096/1097/ ابن أبي عاصم في السنة].
[17] [رئيس سوريا من 1948 – 1953].
[18] [في إيران].
[19] [طه: ٤٤].
[20] [ص91/ على مائدة طنطاوي/ عبدالله أبو علم].

10‏/6‏/2013

خطورة مراكز الحكم


خطورة مراكز الحكم

 

قال تعالى: (( فوربك لنسألنهم أجمعين () عما كانوا يعملون ))([1])

قال عبدالرحمن بن سَمُرة t : قال لي رسول الله e : (يا عبدالرحمن بن سَمُرة! لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألةٍ أعنِتَ عليها، وإن أعْطيتها عن مسألةٍ وكِلتَ إليها)([2]).

مراكز الحكم من أخطر المراكز على أصحابها، لا راحة معها في دنيا ولا في آخرة، ومع ذلك يتصارع الغافلون عليها، وقد قِيل ليزيد بن المهلب - وهو من أعاظِم رجال الدولة الأموية-:  لمَ لا تبني داراً لنفسِك؟ فقال: إن منزلي هو دارُ الحكم أو الحَبس) هذا إذا سَلِم من القتل.

انطلق عمر بن سعد بنُ أبي وقاص إلى أبيه سعد – وهو في غنم له خارجاً من المدينة- فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فلما أتاه قال: يا أبتِ! أرَضيت أن تكون أعرابياً في غنمك والناس يتنازعون في الملك! فضربَ سَعْدً صدرَ ابنه عمر وقال: اسكتْ فإني سمعتُ رسول الله e يقول: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)([3]) وكان سعد t صادقاً في فراسته في ابنه إذ استعاذ بالله من شره لطمعه وتطلعاته السياسية في الإمارة، فكانَ أنْ ابتلي بأكبر فتنةٍ حين استعمله عبيدُ الله بنُ زياد على الري وهَمْدان ثم أمره حين قدم الحسين t إلى العراق أن يخرج إليه فيقاتله فأبى، ثم أطاع إذ هَدَّده ابن زياد بعزله وهَدْم داره فكان على رأس الجيش الذي قتل الحسين u ثم انتقم الله منه لما غلب المختار بن عبيدالله على الكوفة فقتله وقتل ابنَه حفصاً)([4]).

قال زياد([5]) لأصحابه: مَنْ أغبط الناس عيشاً؟ قالوا: الأمير وأصحابُه، قال: كلا، أن لأعواد المنبر لهيبة، ولقرع لجام البريد لفزعَة([6])، ولكنْ أغبط الناس عيشاً، رجل له دار يسكنها، وزوجة صالحة يأوي إليها في كفافٍ من عيش، لا يعرفنا ولا نعرفه فإن عرفناه أفسدنا عليه آخرته ودنياه).

قلتُ: قال العلماء: (أكبر كارثةٍ تحدثها المناصبُ، أنها تغير أخلاق شاغليها، ولا يشعرون بخطورتها طالما كانوا بمواقع الحكم).

حكى الإمام الطبري (رحمه الله): عن الوزير ابن الزيات([7]) قال: (... كان شديد الجزع في حبسه، كثير البكاء، قليل الكلام، كثير التفكير، امتنع عن الطعام، فكان لا يذوق شيئاً، ثم أمِرَ بتقييده، وكان قبل موته بيومين أو ثلاثة يقول: مخاطباً نفسه: يا محمد بنَ عبدِ الملك! لم تقنِعك النعمة الفرْهُ([8]) والدارُ النظيفة والكسْوة الفاخرة – وأنت في عافية- حتى طلبتَ الوزارة! ذق ما عملتَ بنفسك...)([9]). قلتُ: صدق أبو نعيم القائل: (والله ما هلك من هلك إلا بحب الرياسة). قال محمد بن منصور البغدادي: (دخلتُ على عبدالله بن طاهر وهو في سكراتِ الموت فقلت: السلام عليك أيها الأمير، فقال لا تسّمني أميراً وسمِّني أسيراً)([10]).

عن عكرمة بن خالد (رحمه الله): (أنه دخل على نافع بن أبي علقمة الكناني – وهو أمير مكة- وأنه عاده وهو مريض فرآه ثقيلاً فقال له عكرمة: اتق الله وأكثر ذِكرَه فإن الله جل وعلا جعل لك مالاً فأوصِ فيه كما أمر الله عز وجل فإنه يصيب ذا الرحم والمسكينَ وفي سبيل الله، فلما قلتُ له ذلك ولى وجهه إلى الجدار فلبث ساعة ثم أقبل عليَّ فقال: يا خالد!

ما أنكِرُ ما تقول، ولوَدِدْتُ أني كنت مملوكاً لبني فلان من كنانة أسقيهم الماء ولم أل من هذا العمل شيئاً قط)([11]).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( ما لكم لا تناصرون () بل هم اليوم مستسلمون ))([12]).

 

الخطبة الثانية

عن جندب بن عبدالله البجلي t قال: (أتيتُ المدينة ابتغاءَ العلم، فدخلتُ مسجد رسول الله e فإذا الناس في حَلق([13]) يتحدثون فجلعتُ أمضي حتى أتيتُ حَلقة فيها رجل شاحب عليه ثوبان كأنما قدِم من سفر، قال: فسمعته يقول: هلك أصحاب العُقدَةِ([14]) ورب الكعبة، ولا آسى عليهم ولكن آسى على مَنْ يُضِلون من المسلمين، قال: فجلستُ إليه فتحدَّث ثم قال: فسألتً عنه بعد ما قام، قلت: من هذا؟ قالوا: هذا سيد المسلمين أبيّ بن كعب، قال: فتبعته حتى أتى منزله فإذا هو رث الهيئة، ورجل زاهد منقطع يشبه أمرُه بعضُه بعضاً فسلمتُ عليه ورد  علي السلام ثم سألني: ممن أنتَ؟ قلتُ: من أهل العراق، قال: أكثرُ مني سؤالاً، قال: لما قال لي ذلك غضبتُ، قال: فجثوتُ على ركبتي ورفعت يدي هكذا - وَصَفَ حيال وجهه - فاستقبلتُ القِبلة، قال: قلتُ: اللهم نشكوهم إليك، إنا نُنفِقُ نفقاتنا وننصِبُ أبداننا، ونرَحِّل مطايانا ابتغاء العلم فإذا لقيناهم تجَهّموا لنا وقالوا لنا!؟؟ قال: فبكى أبي وجعل يترضاني ويقول: ويحك لم أذهب هناكَ، لم أذهب هناك، ثم قال: اللهم إني أعاهدك لان أبقيتني إلى يوم الجمعة لأتكلمّن بما سعمتُ من رسول الله e لا أخاف فيه لومة لائم، قال: لما قال لي ذلك انصرفتُ عنه وجعلتُ انتظر الجمعة، فلما كان يوم الخميس خرجت لبعض حاجتي فإذا السِككُ غاصة من الناس لا أجد سِكة إلا يلقاني فيها الناس، قال: قلتُ: ما شأن المسلمين؟ قالوا: نحسَبًك غريباً، قال: قلتُ: أجل، قالوا: ماتَ سيد المسلمين أبي بن كعب، قال جندب فلقيتُ أبا موسى الأشعري بالعراق فحدثته حديث أبي، قال: وا لهفاه، لو بقي حتى تبلغنا مقالته)([15]).

آخر الكلام: خطب عبدالرحمن بن الحكم الأندلسي - أمير قرطبة- فقال: (اللهم إن كنتُ أحق بهذا الأمر من عم أبي      - وكان قد خرج عليه - فانصره علي فأمنوا على دعائه ولم يَسْتتِمّ كلامه فسقط مفلوجاً([16])).



[1] [الحجر:91_92].
[2] [متفق عليه].
[3] [1440/ مسند أحمد].
[4] [5/125/ ابن سعد – 450/ تهذيب التهذيب].
[5] [هو زياد بن أبيه والي الكوفة].
[6] [الخوف الشديد].
[7] [اسمه: محمد بن عبدالملك – وزير المعتصم والواثق- صادر المتوكل أحواله وعُذِب وقتل].
[8] [الكريمة].
[9] [ص150/ يسألونك/ العقاد].
[10] [ص28/ المجالسة وجواهر العلم/ القاضي أبو بكر المالكي].
[11] [ص85/ التمنين/ لابن أبي الدنيا].
[12] [الصافات:25_26].
[13] [جمع حلقة (حلقة القوم: دائرتهم)].
[14] [يريد البيعة المعقودة للولاة].
[15] [3/2/161/ طبقات ابن سعد – 3/304/ 305/ الحاكم في المستدرك].
[16] [ أصابه شلل].