13‏/6‏/2013

الاعتبار


الاعتبار

 

قال تعالى: ((  قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير انك على كل شيء قدير ))([1]).

من كلام نبينا e: (عُصَيْبَة من المسلمين يفتتحِون البيتَ الأبيض بيتَ كسرى أو آل كسرى)([2]).

حين رأى المسلمون إيوانَ كسرى - رأوا أعظمَ اعتبار- فقد تذكروا وعد نبينا e فنادى ضرار بن الخطاب t: الله أكبر هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون، وفتحوا المدينة ونزل سَعدٌ t ([3]) القصرَ الأبيضَ واتخذه مُصلى وقرأ في صلاته: قال تعالى: (( كم تركوا من جنات وعيون () وزروع ومقام كريم () ونعمة كانوا فيها فاكهين () كذلك وأورثناها قوما آخرين () فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين )) ([4]).

العقلاء وحدهم من يستفيد من مواقع الاعتبار، قال محمد بن يزيد بن سنان: حدثني جدي سنان (رحمه الله): (خرجنا مع علي بن أبي طالب t حين توجه إلى الشام ولما وصلنا إلى المدائن قال جرير بن سَهْم التميمي:

    عَفتْ الرياح على ربوع ديارهم

                                         فكأنما كانوا على ميعاد

فقال له عليُّ بن أبي طالب t: كيف قلتَ يا أخا بني تميم؟ فردَّدَ عليه البيت([5]). قال: أفلا قلتَ: قال تعالى: (( كم تركوا من جنات وعيون () وزروع ومقام كريم () ونعمة كانوا فيها فاكهين () كذلك وأورثناها قوما آخرين () فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين )) ([6]). (أي أخي! إن هؤلاء كانوا وارثين فأصبحوا موروثين، إن هؤلاء كفروا النعم فحَلتْ بهم النِقم. ثم قال: إياكم وكفر النعم - قالها ثلاثاً- فتحِلَّ بكم النقم).


قالوا: بينما حذيفة بن اليمان وسلمان الفارسي يتذاكران أعاجيبَ الزمان وتغيّر الأيام. وهما عرصة إيوان كسرى وكان أعرابي من غامد يرعى شويهات له نهاراً، فإذا كان الليل صَيّرهن إلى داخل العرْصة وفي العَرْصَة سرير رخام كان كسرى ربما جلس فقال سلمان t: ومن أعجب ما تذاكرنا صعودُ غنيمات الغامدي على سرير كسرى)

قلت: هذا ذكرني بما ذكره التاريخ أنه: (لما قتلَ عامرُ ابن إسماعيل الحارثي مروانَ بن محمد ونزل في داره، وقعَد على فرشِهِ، دخلت عليه عبْدَهُ بنتُ مروان فقال: يا عامر إن دهراً أنزل مروان عن فرشِه وأقعدك عليه لمُبلغ في عظتِكَ إن عَقلتَ)

ولله در القائل:

       عزَّ الضراءُ وأعوزّ الإلمام

                           واسترجعت ما أعطت الأيام

قال أهل الحكمة: المفروحُ به هو المحزون عليه ومن بلغ غاية ما يحب، فليتوقع غاية ما يكره.

قال محمد مهدي البصير (رحمه الله): (رأيت ألمانيا سيدة العالم مرتين ورأيتها تحت أقدام الغالبين مرتين، أفأعجب بعد هذا من حوادث الزمن)([7]).

قال عصام العطار (رحمه الله): (رافقتُ صحائِف التاريخ العجيبة دُولاً وامبراطوريات ٍ في أوج عظمتها، وأنظر الآن فلا أرى إلا بقايا قليلة أو آثاراً في بطون الأرض أو إبهاء المتاحف. كم إنسان يا تُرى عمل في تشييد تلك الصروح كم رجل أو امرأةٍ أو شيخ أو طفل مات في الدفاع عنها.

لقد انهدم ما بنوا ولم يبق إلا الموقف النبيل أو الحقير أو العمل الصالح والطالح والثواب والعقاب عند الله هو الأخلد والأهم أفنعتبر النتائج القريبة وننسى الله ويوم الحساب والبضاعة هناك السراب).


    لكل شيء إذا ما تم نقصان

                        فلا يُغرُّ بطول العيش إنسان

   هي الأمور كما شاهدتُها دُوَل

                        من سّرَّه زمن ساءته أزمان

   وهذه الدار لا تبقي على أحد

                        ولا يدوم على حال لها شان

  يُمزق الدهرُ حتماً كل سابغةٍ([8])

                    إذا نبَتْ([9]) مَشرفيات([10]) وخِرْصان([11])

  ويُنتضى كلُّ سيفٍ للفناء ولو

                    كان ابن ذي يَزن والغمِدُ غمدان([12])

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد () أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ))([13]).

 

الخطبة الثانية

قال محمود الملاح (رحمه الله): (لو اعتبر أهل التاريخ لجَمَدَ التاريخ) قلتُ: لقد صدق، ما أقل من يعتبرُ بتاريخ الأمم وما جرى عليها من المَحِن. ذكر التاريخ: (أن المنصور بن أبي عامر (رحمه الله) كان في قصره [بالزاهرة]([14]) فتأمل محاسِنَه، فانحدرت دموعهُ وقال: ويهاً لك يا زاهرة، ليت شِعري من الخائن الذي يكون خرابُكِ على يديه من قريب، فقال له بعض خاصته: ما هذا الكلام الذي لا يليق بمثله شغلُ البال به؟ فقال: والله لترون ما قلتُ وكأني بمحاسن الزاهرة قد مُحيتْ وبرسومها قد غيِّرتْ وبخزائنها قد نهِبتْ،

وبساحاتها قد أضرمَت بنار الفتنة فلم يكن إلا قليلاً حتى انقرضتْ دولة آل عامر، ولم يبق منهم آمِر وصح فيهم قول القائل:

   كأنْ لم يكن بين الحجون إلى الصفا

                           أنيس ولم يَسْمُر بمكة سامر

وقد حَذر الوزير لسان الدين ابن الخطيب ابنه بسقوط الأندلس قبل أكثر من قرن، وكان ماوجهه من وصاياه لأولاده أن: (نهاهم عن اقتناء العقارات بالأندلس، وقال: مَنْ رزق منك مالاً بهذا البلد القلق المهاد الذي لا يصلح لغير الجهاد فلا يستهلكه في العقار فيصبحَ عُرضة للمذلةِ والاحتقار ومعوقاً عن الانتقال أمام النوَب الثقال، وإذا كان رزق العبد على المولى فالإجمال في الطلب أولى)([15]). وقد قِيل لبعض الحكماء: مَنْ السعيد؟ قال: من اعتبر بأمْسِهِ واستظهر لنفسه).

 



[1] [آل عمران:26].
[2] [1196/ مختصر صحيح مسلم/ كتاب الإمارة].
[3] [ابن أبي وقاص t].
[4] [الدخان:25_29].
[5] [أي: بيت الشعر].
[6] [الدخان:25_29].
[7] [ص46/ خطرات].
[8] [الدرع الواسعة الطويلة].
[9] [إرتدَّ ولم تقطع].
[10] [سيوف منسوبة إلى قرى في اليمن أو شمال الشام].
[11] [الرماح القصيرة السِنان].
[12] [قصر في اليمن].
[13] [الحج].
[14] [من أعمال الأندلس].
[15] [ص110/ عبر وعظات/ جواد المرابط].

11‏/6‏/2013

حرمة دم المسلم


حرمة دم المسلم

 

قال تعالى: (( ... من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ...)) ([1]).

عن عبدالرحمن بن عائذ (رحمه الله): (انطلق عقبة بنُ عامر الجُهَني إلى المسجد الأقصى ليصليَ فيه، فاتبَعهُ ناس، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: صُحبتكَ رسولَ الله e. أحببنا أنْ نسيرَ معك ونسلِمَ عليك، قال: انزلوا فصَلوا، فنزلوا فصلى وصلوا معه، فقال حين سلمَ: سمعتَ رسول الله e يقول: ليس من عبد يلقى الله عز وجل لا يشرك به شيئاً لم يَتندَّ([2]) بدم حرام إلا دخل من أي أبواب الجنة شاء)([3]).

قبل أكثر من ثلاثة قرون قال المفكر الفرنسي فولتير: (يبدو أنَّ هناك تحسناً في كل شيء في العالم عدا الإنسان. فقد ارتفعت أسعارُ كل شيء إلا الإنسان)([4]).

وقد ذكرني هذا الكلام بما حكاه أحمد حسين في كتابه مشاهداتي في جزيرة العرب: (أن أحد الأعراب قتل أحدَ الحجاج فلم يجد معه سوى ريالٍ واحدٍ، فقيل له: قتلتَ حاجاً من اجل ريال واحد؟ فأجابهم: الريال خيرٌ منه)([5]).

النفوسُ الفاسدة العقيدة، وذاتُ الضمائر الميتة والمأجورة، همها مصلحتها الذاتية، مهما كان الثمن، والنفوس ذاتُ الضمائر الحية تحسِب لكل شيء حسابَه.

حكى لي أحد الإخوة قال: كان القاضي ضياء شيت خطاب (رحمه الله) - رئيسُ محكمةِ تمييز العراق-  لا يصادق على حكم إعدام أي شخص قبل لقائه وقيام ليل كامل يسأل الله فيه أن يَهْدِيَه إلى الصواب في حكمه، وقد حُكِمَ على رجل بالإعدام وكانت جميع الدلائل تشير إلى جُرمه، ومع ذلك طلبَ اللقاءَ به فلما مثل بين يديه، سأله عن حاله أمام هذا القرار، فأجابه: والله أنا لم أقتل هذا الرجل ولكنني قتلتُ عشرين شخصاً غيره، فقال القاضي ضياء (رحمه الله): أرَحْتنا وذلك بعد قيام الليل، وأعدِمَ الرجل)، (وكان القاضي رياض (رحمه الله) يصلي ركعتين قبل جلسة المحكمة وبعدها).

 

قال عثمان t لغِلمانه يوم الدار: (من ألقى سلاحه فهو حُرّ) وقال لمن حوله: (من سل سيفه فليس مني). وهذا علي بن أبي طالب (عليه السلام) يوصي ابنه الحسن t بقوله: (إياك والدماءَ وسفكها بغير حِلها فإنه ليس شيٌ أدعى لنعمةٍ ولا أعظم تبعة ولا أحرى بزوال نعمةٍ وانقطاع مُدّةٍ من سفك الدماء بغير حقها)([6]) و (ما أحببتُ منذ علمتُ ما ينفعني ويضرني أن أِليَ أمة محمد e على أن يُهراقَ في ذلك مِحجم دم)([7]) وقد عمل الحسن t بوصية أبيه، فقال عن حقه في الخلافة: (... وتركناه لله ولصلاح أمة محمد e ولحقن دمائهم)، (قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)([8]).

قالت الأميرة بديعة([9]): (أتذكر بعد وصاية الأمير عبدالاله      -أخوها- على عرش العراق، دخل علينا يوماً وقتَ الغداء وكان متألماً جداً، سألته أمّي عما به؟ فقال: هذه هي المرة الأولى في حياتي أوقع فيها على إعدام إنسان، فمنذ أسبوع وأنا متردد وأماطل في التوقيع على القرار أنه قاتل، وقد حكمت عليه المحكمة بذلك الحكم لينال جزاءًه العادل،

والحكومة تطالبني بإنفاذ القرار، اليوم وقعت على قرار إعدامه، إنني أشعر بالذنب لأنني سأكون السبب في إنهاء حياته)([10]).

دماءُ البشر ثقيلة، عاقبتها قتلٌ أو حياة لا راحة فيها (لقد ظل شبح الملك فيصل الثاني يلاحق قاتله([11]) بعد قتله العائلة المالكة، وفقد صوابه وأطلق رصاصة على رأسه منتحراً، فأنهى حياته ليتخلص من العذاب)([12]).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب )) ([13]).

 

الخطبة الثانية

عن أبي برزة الأسْلمِي t قال: (كنا عند أبي بكر الصديق t فغضب على رجل من المسلمين - قد أغلظ له- فرَّد عليه، فاشتد عليه غضبه جداً، فلما رأيتُ ذلك قلت: يا خليفة رسول الله! أضربُ عنقه؟ فلما ذكرتُ القتلَ أضربَ عن ذلك الحديثِ أجمع إلى غير ذلك من النحو، فلما تفرقنا أرسل إليَّ فقال: يا أبا برزة! ما قلتَ؟ - ونسيتُ الذي قلتُ- قلتُ: ذكرنيه؟

قال: أما تذكر ما قلتَ؟ قلتُ: لا والله، قال: أرأيتَ حين رأيتني غضبت؟ُ على رجل فقلتَ: أضربُ عنقه يا خليفة رسول الله؟ أما تذكر ذلك؟ أوكنتَ فاعلاً ذلك؟ قلتُ: نعم، والله، والآن إن أمرتني فعلتُ، قال: والله ما هي لأحد بعد محمد e)([14]).

كتب رجل إلى ابن عمر (رضي الله عنهما): (أن أكتبْ إليَّ بالعلم كله، فكتب إليه: إن العلم كثير ولكن إن استطعتَ أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء الناس، خميصَ البطن من أموالهم، كافَّ اللسان عن أعراضهم فافعل)([15]).   

 



[1] [المائدة: ٣٢].
[2] [أي: لم يصب دماً، كأنه لم تعلق به نداوة الدم].
[3] [521/ مسند الشاميين].
[4] [329/ من أقوال الحكماء/ جمال مشعل].
[5] [ص17/ مشاهداتي في جزيرة العرب].
[6] [جمهرة وصايا العرب].
[7] [ص122/ تاريخ دمشق/ أحمد الشامي].
[8] [3325/ صحيح النسائي].
[9] [ابنة الملك علي، صغيرة الشريف حسين بن علي].
[10] [ص271/ مذكرات الأميرة].
[11] [عبدالستار العبوسي].
[12] [244/ الملك فيصل الثاني/ د. لطفي جعفر].
[13] [آل عمران:8].
[14] [4077/ صحيح سنن النسائي].
[15] [ص148/ جـ3/ سير أعلام النبلاء].