15‏/6‏/2013

الحقد والسياسة الحسنة للشعوب شيئان لا يجتمعان


الحقد والسياسة الحسنة للشعوب شيئان لا يجتمعان

 

قال تعالى: (( يأيها الذين امنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون )) ([1]).

عن أبي سعيد الخدري t قال: (جاء أعرابي إلى النبي e يتقاضاه ديناً كان عليه، فاشتدَّ عليه حتى قال: أحَرّجُ عليك إلا قضيتني، فانتهره أصحابُه، فقالوا: ويحك! تدري من تكلم؟ فقال: إني أطلب حقي، فقال النبي e: هلا مع صاحب الحق كنتم؟ ثم أرسل إلى خولة بنتِ قيس فقال لها: (إن كان عندكِ تمرٌ فاقرضينا حتى يأتينا تمرٌ فنقضِيَك) فقالتْ: نعم، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فاقرضتهُ فقضى الأعرابي وأطعمه، فقال([2]): أوفيتَ أوفى الله لك، فقال([3]): (أولئك خِيارُ الناس – أي الموَفوّنَ المطيِّبون([4])- إنه لا قدِّسَتْ أمه لا يأخذ الضعيفُ فيها حقه غير مُتعْتع)([5]).

الرفق في سياسة الشعوب يأخذ بها إلى بَرِّ الأمان، والقهر يأخذ بها إلى دائرة الهوان والحقد، والسياسة الحسنة للشعوب شيئان لا يجتمعان أبداً، وإن وجد الحقد في سياسة شعبٍ ما فرَّق وحدة الأمة وقادها إلى الهلاك.

وقد أعجبني قول أحدِ الولاة في خطبة له لما استلم الحكم، قال: (يا أيها الناس. قد كان بيني وبينكم إحَنٌ([6]) فجعلتُ ذلك دَبْرَ([7]) أذني، وتحت قدمي، فمن كان محسناً فليزدْ في إحسانه، ومن كان مسيئاً فلينزع عن إساءته، إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السِّل من بغضي لم أكشف له قناعاً ولم أهتكْ له سِتراً حتى يُبْدِيَ صفحته لي)([8]).

وقد (كان بين سعيد بن العاص وقومٌ من أهل المدينة منازعة، فلما صار والياً عليها تركَ المنازعة وقال: والله، لا أنتصر لنفسي وأنا والٍ عليهم)([9]). كان من دعاء نبينا e: (... رب تقبل توبتي واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وأهد قلبي، وسدد لساني وثبت حجتي، واسلل([10]) سَخيمة قلبي)([11]).

(قعد المأمون([12]) مرة للمظالم، فقدِّم إليه أصحابهُ الحاجاتِ        -وكان فيهم نصراني من أهل كسْكر([13])- كان قد صاح بالمأمون غير مرة وقعد في طريقه فلما بَصُرَ به المأمون، أمرَ سِلماً    - صاحب الحوائج - أن يبطحه ويضربه عشرين دِرَّة([14]) وقال لسَلم: قل له: تعود تصيح بي، فقال له سلمٌ ذلك - وهو مبطوح- فقال الرجل: أعود وأعود وأعود حتى تنظر في حاجتي، فأبلغه سَلم ذلك فقال: مظلوم مُوطنٌ نفسه على القتل أو قضاء حاجته ثم قال لأبي عباد([15]): أقض حاجة هذا كائنة ما كانت الساعة، فلا أدري مم يعجب الإنسان، أمِن ملاحظة المأمون، أم من تأميل الرجل، أم من رجوع المأمون عن خطئه فيما صنع وأمره بقضاء حاجة الرجل)([16]). 


قال أحمد بن طولون لابن مهاجر – كاتب بريده- : (... قد صَحَّتْ عندي نصيحتُك، وأنتَ غير محتاج أن تتحامل على أحد لتزيد عندي، وأنتَ تجني على نفسك بذلك من الآثام واستيحاش([17]) الناس مني أكثر مما تحوزه لي من الحظ، وأعلم أنك تزرع في قلوب الناس – بما تأتيه- حقداً لا تفنيه الأيام فاطلب الشكر من الناس، فليس يكرهه إلا ناقصُ المعرفة جاهل بما يوجب حُسنُ السياسة)([18]).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: (( سماعون للكذب اكالون للسحت فان جاءوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم وان تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وان حكمت فاحكم بينهم بالقسط ان الله يحب المقسطين ))([19]).

 

الخطبة الثانية

قال غوستاف لوبون([20]): (لو أن بعض الحقائق تجد سبيلاً إلى أذهاب الشعب لزالت معظم أسباب الثوارت).

أرادَ الخليفة العباسيُّ المأمونُ أن يَنتقِصَ أحدَ بني أميّة([21]) فقال له يحي بنى أكثم – وزيرُه- : (الرأي عندي أن تدعَ الناس على ما هم عليه، ولا تظهر لهم أنك تميلُ إلى فِرقةٍ من الفِرَق، فإن ذلك أصلح في السياسة وأحرى في التدبير، فاتبع المأمون نصيحته)([22]).

(لما بُويع السلطان علي باي في تونس أتيَ بخريطة مملوءة بمكاتيب لخصمه إسماعيل بن يونس، فأمرَ بحرقِها بمرأى ومسمع وقال: إن عاقبنا أصحابها فهو شدة وانتقام، وإن سامحناهم جَرّأناهم، ويبقى في القلب شيء [فحسمُ المادة حرقها قبل الإطلاع عليها] فدانت له بهذا الإغضاءِ([23]) سائرُ القلوب، وهذا السلوك لا يصدر إلا من غلبَ هواهُ وقليل ما هم)([24]).

جاء جَعْدَة  بنُ هبيرة إلى الإمام علي t فقال: يا أميرَ المؤمنين! يأتيك الرجلان، أنتَ أحبُّ إلى أحدهما من نفسه، أو قال: من أهله وماله، والأخرُ لو يستطيع أن يذبحك لذبحك، فتقضي لهذا على هذا، قال: فلهَزهُ([25]) عليٌّ t وقال: [إن هذا شيءٌّ لو كان لي فعلتُ، إنما ذا شيءٌّ لله].



[1] [المائدة: ٨].
[2] [أي: الأعرابي]
[3] [أي: النبي e].
[4] [كما جاء في بعض الروايات].
[5] [1818/ صحيح الترغيب والترهيب].
[6] [جمع مِحنة (الأحقاد)].
[7] [أحقاد].
[8] [أي: تغافلتُ عنه ولم ألتفتْ إليه وجعلتُ كلامه خلف أذني].
[9] [ص112/ مجلة حضارة الإسلام/ 1380 هـ / عدد 9].
[10] [انزع].
[11] [3830/ صحيح ابن ماجة].
[12] [الخليفة العباسي].
[13] [مدينة في بابل].
[14] [السوط الذي يضرب به].
[15] [هو سَلم].
[16] [ص227/ محاضرات الأمم الإسلامية/ محمد الخضري بك].
[17] [الوحشة].
[18] [ص145/ سيرة أحمد بن طولون/ محمد كرد علي].
[19] [المائدة:42].
[20] [مفكر فرنسي].
[21] [معاوية].
[22] [ص226/ تاريخ الأمم الإسلامية/ محمد الخضري بك].
[23] [التجاوز وترك المحاسبة].
[24] [ص55/ إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان/ أحمد بن الضياف].
[25] [أي: ضربه بجُمع الكفِّ في صدره].

13‏/6‏/2013

كل حال يزول


كل حال يزول

 

قال تعالى : (( ... وتلك الأيام نداولها بين الناس ... ))([1]).

قال رسول الله e في قوله تعالى: (( كل يوم هو في شأن ))([2]). (من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرِّج كرباً، ويرفعَ قوماً ويخفِض آخرين)([3]).

أقول: (كلُّ حالٍ يزول) (وسبحان الذي يغير ولا يتغير ولا يحول ولا يزول ) وصدق الله من قال:

هي المقادير تجري في أعِنتها

                            فاصبر فليسَ لها صبر على حال

يوماً تريكَ خسيسَ الحال ترفعه

                           إلى السماء ويوماً تخفِضُ العالي

 

في أيام الحرب العالمية الثانية، وفي مجلس تاجر أغنام في [حماة – سوريا] تطرق الحديثُ إلى السلطان العثماني عبدالحميد الثاني (رحمه الله)، فقال التاجر: (وقعتْ بيد أبي جارية من جواري السلطان عبدالحميد الثاني (رحمه الله)، فجاء بها إلى حماة، وفي يوم من الأيام جاء إلى بيته فرأى الجارية تبكي فقال: ما بها؟ لعلكم آذيتموها؟ فقالت الجارية: لا، إنما أبكي على قدر الله تعالى، إني كنتُ في قصر يلدز، وكان من واجبي أنْ أملأ إبريق الماء للسلطان في صلاة الفجر فكنتُ كثيراً ما أسمعه يقول: كلُّ حالٍ يزول).

في حياة الأمم والشعوب والأفراد، أحوالٌ لا قرار لها، يظنها الغافلون ساعاتِ أمان، ولكنْ يصدقُ فيها قول القائل:

  إنما نعـــمة قــــوم متعة          وحياة المرء ثوبٌ مستعارُ

  بينما الناس على عليائها      إذ هوَوا في هوَّةٍ منها وغاروا

قال الوزير الكبير أبو الحزم بنُ جَهْوَر – وقد وقف على قصور([4]) الأندلس التي تقوضتْ أبنيتها، وعُوضتْ من أنيسها بالوحوش بيوتها- :

   قلتُ يوماً لدار قوم تفانوا      أين سكانُك العِزازُ علينا؟

  فأجابتْ: ههنا أقاموا قليلاً      ثم ساروا ولستُ أعلم أينا([5])

قال أهل الحكمة: (الدنيا مُرتجعَة الهبَة)، قالت هند بنتُ النعمان بن المنذر ملكِ العرب: (لقد رأتينُا ونحن من أعزّ الناس وأشدِّهم مُلكاً، ثم لم تغِب الشمسُ حتى رأتينا ونحن أقلَّ الناس، وإنه حَقٌ على الله ألا يملأ داراً حَبْرة([6]) إلا ملأها عَبْرة، -ولما سألها سائلٌ أن تحدِّثه عن أمرها قالتْ: أصبحنا ذاتَ صباح، وما في العرب أحدٌ إلا ويرجونا، ثم أمسينا وما في العربي أحد يرحمنا وبكتْ – ذاتَ يوم- أختها حرقة – وهي في عزها- فقيل لها: ما يُبكيك؟ لعل أحداً آذاك؟ قالتْ: لا، ولكنْ رأيتُ غضارة([7]) في أهلي، وقلما امتلأتْ دار سروراً إلا امتلأتْ حُزناً)([8]). وصدقتْ فقد قال لها زياد بنُ أبيه بعد نكبتهم: أخبريني بحالكم، قالتْ: إن شئتَ أجملتُ وإنْ شئتَ فسَّرتُ!([9]) فقال لها: أجملي، فقالتْ (بتنا نُحْسَد وأصبحنا نُرْحَم) فأعطاها دنانيرَ فأخذتها)([10]).

ولما قدم سعد بنُ أبي وقاص t القادسية،أتته في جَوار كلهنَّ في مثل زيِّها، يطلبْنَ صِلته فلما وقفنَ بين يديه قال: أيتكنَّ حَرْقة؟ قلنَ: هذه، قال: أنتِ حَرقة؟ قال: نعم،

فما تكرارُك في السؤال؟ إن الدنيا دارُ زوال، لا تدوم على حال، ثم أنشأت تقول:

بينا نسوس الناس والأمرُ

                        أمرنا إذا نحن فيها سوقة([11]) نتنصَّفُ([12])                      

  فأفٍ لدنيا لا يدوم نعيمُها

                                تقلبُ تاراتٍ بنا وتصرَّفُ([13])

قلتُ: لله دَرُّ القائل :

    فمَسّاهمُ وبُسْطهُمُ حرير

                                وصَبَّحهم وبُسْطهُمُ ترابُ

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: قال تعالى: (( ... وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور ))

 

الخطبة الثانية

ما الذي يُفيد ما سبق من كلام؟

الفائدة الأولى: ما ذكره أهل الحكمة (أن الدنيا مُرتجعة الهِبَة) و (أن دوامَ الحال من المحال) والأمل برحمة الله قائم، ما قام الصبر عند العبد مقامه، و (أنَّ الدنيا دُولَ، والمال عاريّه، ولنا بمَنْ قبلنا أسوة، وبمن بعدنا عِبرة)(1).

ورحم الله عليَّ بن الجهم القائل:

   هي النفسَ ما حملتها تتحمل  

                             وللدهر أيامٌ تجورُ وتعدلُ

    وعاقبة الصبر الجميل جميلة  

                           وأفضلُ أخلاقِ الرجالِ التفضلُ

  ولا عارَ إن زالت عن الحُرِّ نعمة 

                            ولكنَّ عاراً أن يزولَ التجملُ([14])

 

قال أحد الدعاة: (إذا دَهَمتكم الشدائدُ وسُدَّتْ في وجوهكم مسالكُ الأرض وأغلقتْ أبوابُ الفرج، فارفعوا أيديَكم إلى السماء فإنَّ بابَ السماء لا يُغلقه ربكم أبداً، فسألوه يُعطِكم وأدعوه يستجب لكم).

وقد أحْضِرَ رجل في أيام نازوك([15]) أمير شرطة بغداد –أيام المكتفي بالله- ليقتلَ فدعا بطعام فأخذ يأكل ويضحك فقيل له: تضحك وأنت مقتول؟ فقال: من الساعة الساعة فرج – وأنا أتعجبُ منه- فسمِعتُ صيحة فقيل: مات نازوك الأمير، فخلوا الرجل سالماً)([16]).

والفائدة الثانية: أخذ الدروس والعِبر ممن ذهب وغَبَر، ورحم الله القائل:

   يا غافلاً وله في الدهر موعظة

                                  إن كنتَ في سنةٍ فالدَّهر يقظان

بل والله دَرُّ القائل:

  عَزَّ العَزاء وأعوز الإلمام

                                  واسترجعت ما أعطتْ الأيامُ



[1] [آل عمران: ١٤٠].
[2] [الرحمن: ٢٩].
[3] [167/ صحيح ابن ماجة/ عن أبي الدرداء].
[4] ( قصور الامويين )
[5] [525 ج1 نفح الطيب ]
[6] [ سرور ونعمة ]
[7] [ النعمة وطيب العيش]
[8] [ص86 (الصبر قي القران) للقرضاوي]
[9] [ أي أوضحتُ وبينتُ ]
[10] [ص18/ مجموع رسائل الجاحظ/ محمد طه الجابري/ 1943/ قاهرة].
[11] [الرعية من عامة الناس].
[12] [أي نخدم ]
[13] [جزء 3 ص181 خزانة الأدب]
[14] [الصبر على نوب الدهر وترك اظهار الذل والخضوع]
[15] [أبو منصور مولى أبي احمد المكتفي بالله]
[16] [ص143/ لطائف المعارف/ للثعالبي].