16‏/6‏/2013

عــواقـــب الـظـلــم


عــواقـــب الـظـلــم

 

قال تعالى: (( ... يأيها الذين امنوا إنما بغيكم على أنفسكم ... ))([1]).

من كلام نبينا e : (ما من ذنب أجدرُ أن يُعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يَدِّخر له في الآخرة من البَغي وقطيعة الرحم)([2]).

في التوراة: (من يظلم يَخْرَب بيته) وفي القرآن تصديق لذلك: (( فتلك بيوتهم لما خاوية بما ظلموا ... ))([3]). وفي التوراة أيضاً:: (كما تدين تدان). ومن كلام عيسى u: (بالمكيال الذي تكيلون يُكال لكم وتزدادون). وصدق من قال: من سل سيف البغي أغمِدَ فيه ومن أسس أساسَ السوء أَّسسَه على نفسه).

حَدَّث الإمام الزهري (رحمه الله) – وقد خرج من عندِ هشام بن عبدالملك- فقال: (ما رأيتُ كاليوم ولا سمعتُ كأربع كلمات تكلم بهن رجل عند هشام بن عبدالملك، دخل عليه فقال: [يا أمير المؤمنين!

احفظ عني أربعَ كلماتٍ فيهنَّ صلاحُ ملكك واستقامة رعيتك. قال: ما هنَّ؟ قال: لا تعِدْ عِدَة لا تثِق من نفسك بانجازها، ولا يغرَّنك المرتقى – وإنا كان سهلاً- إذا كان المنحَدَر صعباً، وأعلم أن للإعمال جزاءً فاتق العواقب، وأن للأمور بَغتات([4]) فكن على حذر] قال عيسى بن دأب: فحدثت المهدي بهذا الحديث -وفي يده لقمة قد رفعها إلى فيه([5])- ، فأمسكها وقال: ويحك أعِدْ عليَّ، فقلتُ: يا أمير المؤمنين: أسِغ لقمتك. قال: حديثك أحبُّ إليَّ)([6]).

كان أبو جعفر محمد بن عبدالملك المعروف -بابن الزيات- وزيرُ المعتصم، وكان قد اتخذ تنوراً من حديد وأطرافُ مساميره إلى داخل -وذلك أيامَ وزارته- وكان يعذب فيه المصادَرين وأربابَ الدواوين المطلوبين بالأموال، فكيف ما انقلب واحد منهم أو تحرك من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه فيجدون لذلك أشدَّ الألم، ولم يسبق أحد إلى هذه العقوبة وكان شديد القسوة إذا قالَ له أحدٌ منهم: أيها الوزير ارحمني، يقول له: الرحمة خوَرٌ في الطبيعة([7])،

فلما اعتقله المتوكل أمر بإدخاله في التنور فقال: يا أمير المؤمنين ارحمني، فقال له المتوكل: الرحمة خوَرٌ في الطبيعة، كما كان يقول للناس، وقد وقع يوماً على رقعةِ رجل توسّل إليه بقرب الجوار منه [الجوار للحيطان والتعطف للنسوان] ولما وضعه المتوكل في التنور قال له: أجرينا فيك حكمكَ للناس)([8]). قال أبو عيينة حُصن الغزاري: (إياكم وفضحاتِ البغي)([9]). ومن كلام خالد القسري بن أبي بردة: (لا يحملنكم فضل المقدرة على شدة السطوة، فإن الله مَع الذين اتقوا والذين هم محسنون).

في عام 387 هـ أمَرَ الحاكم بأمر الله الفاطمي بقتل [عيسى بن نسطورس] فقال عيسى وهو ماضٍ ليُقتل: (كلُّ شيء كنتُ أحسَبُه إلا موتَ العزيز الفاطمي، ولكنَّ الله لا يظلم أحداً، والله إني لأذكرُ وقد ألقيتُ في سنة 386 هـ أوراقاً على بعض المتهمين بالنهب -وكان في بعضها القتلُ وفي بعضها الضربُ- فأخِذ شابٌّ ممن كان فيهم رقعة فيها القتلُ، فأمرتُ بقتله، فصاحت أمُّه ولطمت وجهها وحلفتْ أنها وابنها ما كانا ليلة النهبِ وإنما وَرَدا مِصْرَ بعد النهب بثلاثة أيام، فلم التفت إليها وأمرتُ بضرب عنقه فقالت أمُّه:

إن كنت قاتله فاجعله آخِرَ من يُقتل لأتمتع به ساعة، فأمرتُ به فجعِل أوَّلَ من ضُرب، فلطمت بدمه وجهها وسبقتني إلى القصر -وهي منبوشة الشعر ذاهلة العقل- فلما وافيتُ قالت لي: قتلته كذلك يقتلك الله، فأمرتُ بها فضربت حتى سقطت على الأرض، ثم ترون الآمن ما ترون)([10]).

قال تعالى: (( وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين ))([11]).

 

الخطبة الثانية

قال أبو الحسن علي بن عبد الأعلى (رحمه الله): (كنا بحضرة أبي الحسن علي بن الفرات [الوزير] – أيام المقتدر بالله- إذ رفع رأسَه وقال: أريدُ رجلاً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر يُطيعني حق الطاعة، فأنفِذه في مُهمٍّ لي فإذا بلغ فيه ما أرسمه له أحسنتُ إليه إحساناً يظهر عليه، فأمسك مَنْ حَضر ووثب رجل يكنى بأبي منصور فقال: أنا أيها الوزير، أفعلُ وأزيدُ، قالَ: كم ترتزق؟ قال: أرتزق مائة وعشرين دينار، قال: وقعوا له بالضِعف، وسَلْ حوائجك، فسأله أشياء أجابه إليها فلما فرَغ قال: خذ توقيعي وامض إلى ديوان الخراج وطالبْ بإخراج ما على محمد بن جعفر بن الحجاج، وبلغه أن يُستخرجَ جميعه ولا تسمعْ له حجة قال: -فأحضره وشتمه وافترى عليه- وابن الحجاج يستعطِفه ثم أمر بتجريده وإيقاع المكروه به وهو       -في كل ذلك يقول (يكفي الله)- ثم أمر بنصب دَقلْ([12]) ورفعه إليها، وقعد تحتَ الدَقل وغضِب من غير غضب اعتماداً لأن يبلغ ابن الفرات فعله، فلما ضجر قال: أرسلوا ابن الفاعلة      -وهم يعالجون حبال البكرة سقط ابن الحجاج على عنق أبي منصور- وكان بديناً سميناً فدّقها فحُمِلَ أبو منصور إلى منزله فمات في الطريق، فعَجبَ من حضر مما رأى وكتب صاحب الخبر بالصورة إلى ابن الفرات فورد عليه منها أعظم مورد وقال: قلما ظفر أحد ببغي فلم يبطر، وأطلق ابن الحجاج وكان الناس يعجبون من قول أبن الفرات: أريدُ رجلاً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر)([13]). ودارت الأيام و:(قبض المقتدر على ابن الفرات وعلى ابنه وسُلم إلى الوزير عبيدِ الله بن محمد ثم طولِبَا بأموال فما أذعنا بشيء فقتلهما نازوك وبعث برأسيهما إلى المقتدر في سَفط وغرَّق جَسَديهما)([14]).



[1] [يونس: ٢٣].
[2] [2011/ الترمذيٍ].
[3] [النمل: ٥٢].
[4] [مفاجآت].
[5] [فمه].
[6] [ص75/ زهر الآداب].
[7] [ضعف في الطبيعة].
[8] [ص102/ ج5/ وفيات الأعيان].
[9] [الفضائح].
[10] [ص336/ موسوعة العذاب/ عبود الشالجي – 2/196/ خطط المقريزي].
[11] [القصص].
[12] [خشبة مثل صاري السفينة].
[13] [ص50/ ذيل كتاب الوزراء].
[14] [ص477 – 478/ ج14/ سير أعلام النبلاء].

غسيل الدماغ


غسيل الدماغ

 

قال تعالى: (( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ))([1]).

من كلام نبينا e: (من تشبه بقوم فهو منهم)([2]).

قال أبو مسعود الأنصاري (رحمه الله) لحذيفة بن اليمان t: أوصني! قال: (إن الضلالة حقَّ الضلالةِ إن تعرفَ ما كنت تنكر وتنكر ما كنت عرف...)([3]).

أقولُ: هذا الكلام الدقيق هو ما يُطلِق عليه علماءُ النفس [غسيلَ الدِماغ] وهو حملُ النفس على أنْ تستحسِنَ ما كان يُستقبحُ من أعرافها ودينها، أو تستقبحُ المسلماتِ التي بُنيتْ عليها قيمها الحضارية من خلال التكرار المُلِح لقيم الباطل بحيث تخلقُ في النفس الشعورَ بأن الآراء المفروضة عليها هي آراؤها الخاصة،


(وهذه عبودية عقلية - كما قال العلماء - وهي أشدُّ خطراً من العبودية الجسمية، لأن هذه لا تتعدى الأجسام والعَرَضَ وما يُرجى شفاؤه، أما تلك فحكمها حكم العقل إذا ذهب والروح إذا زهق. إن العلم لا وطن له أما الآداب والفنون والأذواق والأخلاق والتقاليد فهي قوام الأمم، ولا تنزل أمة عنها إلا إذا نزلتْ عن ذاتها وزلت عن مستواها)([4]). فبالقهر الإعلامي المسموم تزيف شخصية الأمة ويُقضى على هويتها.

قال أبو الحسن الندوي (رحمه الله): (حكى لي صديق قال: قلت لصديق لي هندوكي – وكان بروفسوراً- : لو طلبَ منا أحد أنْ نوجز له تعريفَ الإسلام لقلنا [إنه الإيمان بـ (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)] وإذا ما سألكم أحدٌ أن توجزوا له تعريف الهندوكية فماذا تقولون؟ فقال بعد أن أجهد فِكرَهُ: يا أخي! الواقع، إن الذي لا يعتقدُ في شيء فهو هندوكي، والذي يعتقد في كل شيء فهو هندوكي كذلك). ولما سُئل رئيس وزراء الهند (جواهر لال نهرو) عن تعريف الهندوكي قال: (كل من أدعى الهندوكية فهو هندوكي)

ومع هذا تراهم يعتزون بتراثهم وعاداتهم وتقاليدهم لأنها جزء من حياة أمتهم، وهذا زعيم غاندي يقول: (إنني لا أريد أن ترتفع الجدران من كل جانب حول بيتي، إنني أريد أن تهُبَّ ثقافة كل الأرض حول بيتي، ولكنني أرفضُ أن تقتلعني أيُّ منها من جذوري).

قال أحد المفكرين الأجانب([5]): احذروا يا عرب يا مسلمون! أن تخلِطوا تصَوّراتكم بالتصورات الغربيةِ، فأنتم أهل حضارة عريقةٍ لها مقومات لا تملكها حضارتنا لا تتطلعون إلى الحضارة الغربية تطلع المُمّجدِ لها إنها ستبلى)([6]).

قال مالك بن نبي (رحمه الله): (الرجل الذي يعيش في مجتمع متخلف يَرُدُّ – بسبب عُقدة تخلفِه- ذلك لنقص ما لديه من مدافعَ وطائرات، وبذلك يُفقِدُ مُركبُ النقص لديه فاعِليته الاجتماعية، فينبغي أن يَرُدَّ تخلفه إلى مستوى الأفكار لا إلى مستوى الأشياء)([7]).

 

وهذا الكلام هو عين كلام مونتكمري([8]) حيث قال: (لكي نخدِمَ بريطانيا ونفجر بأننا انكليز ليس من الضروري أن نملك قنابلََ ذرية فليست البلاد والتي تنقصها القنابل الذرية هي التي تدعى دولاً من الدرجة الثانية، بل ينبغي أن يطلق ذلك على البلاد والتي تعوزها المثل العليا...)([9]).

قال أحد الدعاة([10]): (كنتُ مع الشيخ المراغي([11]) (رحمه الله) فقال لي: لكي يعود المسلمون إلى الإسلام فلا بد أن يُسلِمَ الأجانب أولاً، فإذا دخل الأجانب في الإسلام قلدهم المسلمون)

قلت هذا المعنى قاله ابن خلدون (رحمه الله) قال (ان المغلوب أبداً مولع بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده ويعتقد الكمال فيمن غلبه ) واختصر نبينا e هذا المعنى بكلمة واحدة (خالفوهم ) .

قال ابن مسعود (رضي الله عنه) (لا يشبه الزي ُّ الزيَّ حتى تشبه القلوبُ القلوبَ ولقد أصيب بغسيل الدماغ حتى بعض المثقفين من الشعراء وبعض أهل العلوم الشرعية لقوة فاعلية الغزو الفكري الذي سلط على هذه الامة).

 

قال الكاتب الكبير رضى توفيق (رحمه الله) - وكان من أشدِّ المعارضين  لسياسة السلطان عبدالحميد الثاني - وبعد عزل السلطان ووفاته عام 1918 ندِم أشدَّ الندم على مواقفه الخاطئة ورَثا السلطان معترفاً بالذنب قائلاً: (عندما يذكرُ التاريخ اسمك، يكون الحق في جانبك أيها السلطان العظيم، كنا نحن الذين افترينا دون حياء على أعظم سياسي العصر. قلنا: أن السلطان ظالمٌ وأن السلطان مجنون، قلنا: لا بد من الثورة على السلطان، وصدقنا كلّ!َ ما قاله لنا الشيطان)([12]).

قال ابن عطاء السكندري (رحمه الله): (أجهل الناس مَنْ ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: (( ... ولا تتبعوا اهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ))([13]).

 

الخطبة الثانية

في عام 1989 اعتبر الفرنسيون أن أهمَّ حدثٍ في زيارة متران([14]) لتونس هو الإعلان عن بث قناة تلفزيونية مشحونةٍ بمشاهد الرذيلة والتي صدمت الرأي العام التونسي، ولأجل غسل دماغ المجتمع ليتقبلَ هذا الأمر قاموا بتحقيقات تآمرّية من جانب  واحد – جانب المؤيدين- مع غمز الجانب المخالف بسوء الفهم تارة، وقلة المعترضين تارة أخرى، قالت المُستَجوبة – تحت اسم مستعار- ومن المؤيدين لمشاهدِ التعري وبتبادل القبَل طالبة بكلية الآداب قال: (الأمر أبسط من البساطة لأن كل ما يحدث بين رجل وامرأة هو شيء طبيعي) وتعلق المستجوبة – بحماس- موقف واضح وصريح ويجد العديد من المساندين، أما المستجوبة الثانية فهي موظفة بإحدى وكالات السفر تقول وبوقاحة: (إنني أدعو إلى الإطالة في مثل هذه المشاهد لأنها تنعش الروح، واعتبر من يرفض هذه المشاهد هو إنسان مريض ومُعقد). ومستجوب آخر يقول: إن رَفضْ إدراج بعض المشاهد المثيرة هو من قبيل الجهل. والرابع يقول: (لقد أصبحْ ابنتي التي لم تبلغ بعد الأربع سنوات تتعامل مع هذه المشاهد بكل تلقائية وهذا مهم لتوازنها النفسي).

أما الأجوبة المعارضة فتوردها بصيغة كاريكاتورية واصفة إياها بالبساطة والجهل والتزمت، وتقول: وقد وردت على ألسنتهم نفس الحجة (الحفاظ على الأخلاق والحياء والحشمة).

صدق الذي قال:

لا يُحكم الصيادُ أشراكه       إلا إذا عكر بطن الغدير

جرت مقابلة مع بنات تونسيات تقول الفتاة : أنا أوربية أولاً، وفرنسية ثانياً، ومسلمة ثالثاً).

قال محمد على الحوماني: (ركبتُ الباخرة من أوربا إلى أمريكا، وكان في جواري شاب يحمل جنسية مغربية واسمه أبو الحسن، فقلتُ: أنا مسلم عربي فأنكر عليَّ أن يكون واحداً منهما وهو يتكلم العربية، ولما حججته بالاسم والله والجنسية قال: كان أبي وجدي كذلك، أما أنا فأفرنسي والحمدلله، فسألته عن سبب ذلك فقال: لأن العرب جهلاء لذلك خرجت من عنصرهم).

قلت: صدق الذي قال:

يُقضى على المرء في أيام محنته    حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن



[1] [الجاثية:18].
[2] [4/44/ أبو داود].
[3] [الإبانة/ ابن بطة/ ص90].
[4] [ص188/ وحي الرسالة/ أحمد حسن الزيات].
[5] [لويس روخاس].
[6] [ص277/ متعة الحديث/ عبدالله الداود].
[7] [ص48/ مجلة الأمة].
[8] [قائد انكليزي].
[9] [ص63/ بين العقيدة والقيادية/ محمود شيت خطاب].
[10] [حسن البنا].
[11] [شيخ الأزهر/ محمد مصطفى 1928].
[12] [ص42/ نظرات في روح العصر/ يسار محمد الدرزي].
[13] [المائدة: ٧٧].
[14] [رئيس الجهورية].