16‏/6‏/2013

البعد الغيبي في تقرير مصائر الأفراد والأمم والشعوب


البعد الغيبي([1](

في تقرير مصائر الأفراد والأمم والشعوب

 

قال عز وجل: (( قل لا املك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل امة اجل إذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون )) ([2]).

من كلام نبينا e: (... الميزان بيد الرحمن يرفع أقواماً ويخفضُ آخرين إلى يوم القيامة)([3]).

في مصائر الأفراد والأمم والشعوب مُغيبات لا تحكمها قواعدُ البشر، لا تقدِّمُها قوة ولا يؤخرُها ضعفْ، عَبَّر عنها الدكتور عماد الدين خليل (حفظه الله) – استاذ التاريخ- بـ [البعد الغيبي في مصائر الأمم وحركة التاريخ].

وقد أشار إلى هذا المعنى الدقيق هتلر في كتابه كفاحي، جاء فيه: (هناك لحَظات في تاريخ الأمم والأفراد، قد تهوي بفرد أو أمةٍ من القِمة إلى الحضيض، وقد ترقى بفرد أو أمةٍ من الحضيض إلى القمة، ولا يعرف أحدٌ من يؤقِتها إلا أنه يبدو [أن الحكمة الالهية تتجلى في عملية الغربَلة]([4]).

قلتُ: صدق، هذا الكلام قاله بعد علم وتجربة وذلك أن ((غورنغ)) – مارشال الرايخ عام 1939م- وفي بداية الحرب الكونية الثانية قال: (إن الذي يملك 20 ألف طائرة هو سيد العالم) ولا يعرف هذا المتكبر معنى قوله تعالى: (( ... والله غالب على امره ولكن اكثر الناس لا يعلمون ))([5]).

قال الشاعر الانكليزي شكسبير: (ثمة قدرةٍ إلهية تحدد مصائرنا على رُغم أنوفنا)([6]).

قلتُ: صدق، (( ... والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب )) ([7]).

شاعر فرنسا [هوجو]([8]) قال لنابليون: أيها الملك! إنك تستطيع أن تملِكَ العالم ولكنك لا تستطيعُ أن تقول ((المستقبلُ لي)) – وقد قال ذلك- لأن المستقبل أيها الملك بيدِ الله وحده).

قال رجل لرستم قبل وقعة القادسية: (لا يَغرّنك ما ترى حولك، فإنك لستَ تجادل الأنسَ، إنما تجادلُ القدرَ)([9]).

حكيم فارس بُزرُ جمَهّر قال: (كلُّ عزيز دخل تحت القدرةِ الآلهية فهو ذليل).

ذكر تاريخ السيرة النبوية: (أن رسول َ الله e بعث عبدَ الله بن حذافة السهمي – وهو أحد الستة([10])- يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتاباً، قال عبدالله: فدفعتُ إليه كتاب رسول الله e فقرئ عليه، ثم أخذه فمزَّقه فلما بلغ ذلك رسول الله e قال: اللهم مزِّق مُلكه، وكتب كسرى إلى باذان عامِله على اليمن [أن أبعثْ من عندك رجُلين جَلدَيْن([11]) إلى هذا الذي بالحجاز فليأتياني بخبره – وفي رواية البيهقي زيادة صحيحة- ألا تكفيني أمر رجل قد ظهر بأرضك يدعوني إلى دينه، لتكفِينَّه أو لأفعلنَّ بك، فبعث باذان قهرمان ورجلاً وكتب معهما كتاباً فقدِمَا المدينة، فدفعا كتاب باذان إلى النبي e فتبسَّم رسول الله e ودعاهما إلى الإسلام وفرائصُهما([12]) ترْعد وقال: ارجعا عني يومَكما هذا حتى تأتياني من الغد

فأخبركما بما أريد فجاءاه من الغد فقال لهما: أبلغا صاحبكما أنَّ ربي قد قتل ربّه كِسرى في هذه الليلة)([13]).

قلتُ: ذكر التاريخ: (أن مروان الثاني عَرَض العسكر ثلاثمائة ألفِ رجل بالعُدَد الكاملة، فقال وزيره: إن هذا لمن أعظم الجيوش، فقال مروان: أسْكتْ فإنه أذا انقضت المدة لم تنفع العِدّة)([14]).

وهذا الحُكم يسري على مستوى الأفراد كما يسري على مستوى الجماعات والأمم.

عُرضَ غلامٌ للبيع على نظام الملك الوزير([15]) فرَدَّه استحقاراً، فأثنى عليه سيده، فقال نظام الملك (رحمه الله): عسى أن يأتينا بملك الروم أسيراً.

وشاء الله في واقعة خلاط أن يقع الملك بيد هذا الغلام أسيراً فأرادَ قتله، فقال له خادم مع ملك الروم: لا تقتله فإنه الملك، فأحضره إلى السلطان ألب أرسلان بعد أن قتِل من الروم ما لا يحصى)([16]).

هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: (( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير انك على كل شيء قدير ))([17]).

 

الخطبة الثانية

ذكر التاريخ: (أن الاسكندر ذا القرنين كان في بعض الليالي مختلياً بنفسه، فدخل عليه حاجبه وقال له: رسول ملك الصين بالباب – وكان الاسكندر محاصراً للبلد- قال: أدْخله، فدخل فسلم وقال: أنْ رأى الملك أن يستخليني فليفعل فأمر الاسكندر مَنْ حوله فانصرفوا، فقال: أنا ملك الصين لا رسولهُ، جئت أسألك عما تريده فإن كان يمكن عمله عملته وأعفيتك من الحرب، قالَ الاسكندر: ما الذي أمّنك مني؟ قال: علمي بأنك عاقل، فاتفق معه على شيء يسير من الجزية فلما طلعتْ الشمس أقبل جيش الصين حتى طبَّق([18]) الأرضَ وأحاط بالاسكندر، وطلع ملك الصين وعليه التاج، فلما رآه الاسكندر قال له: غدَرْتَ فترجَّل وقال: لاوالله، لكني أردتُ أن أريَك أنني لم أطِعْكَ عن قلة وَضعْف ولكنْ لمّا رأيتُ العالمَ العِلويَّ مقبلاً عليك ممكناً لك من هو أقوى منك أردتُ طاعته وطاعتك، فقال الاسكندر ذو القرنين: ليسَ مثلك من يؤدي الجزية وودعه وانصرف)([19]).



[1] هو ما نجهله من علم الله في تصرفاته الكونية الخارجة عن إرادتنا.
[2] يونس: ٤٩ .
[3] 1/165، ابن ماجة.
[4] كفاحي، ص70.
[5]  يوسف: ٢١ .
[6] كيف تكسب الأصدقاء، ص85.
[7] الرعد: ٤١.
[8] هو: فكتور هوجو.
[9] إمام الوفا، محمد الخضري، ص75.
[10] هم رسل الملوك الذين بعثهم رسول الله e يدعوهم إلى الإسلام.
[11] أي: قويين شديدين.
[12] جمع فريصة، وهي اللحمة بين الجنب والكتف ترعد عند الفزع.
[13] السلسلة الصحيحة، 3/1429.
[14] التبر المسبوك في أخبار الملوك، ص81.
[15] وزير السلطان ألب أرسلان.
[16] الفتوحات الإسلامية، ص342.
[17] آل عمران: ٢٦ .
[18] أي: غطاها.
[19] السياسة والحلية عند العرب، د. نازك سابا، ص140.

آثار المال الحرام


آثار المال الحرام

 
 
قال تعالى: (( يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلال طيبا ... )) ([1]).

من كلام نبينا e : (والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب إلى الجبل فيحتطبَ ثم يأتي به يحمله على ظهره فيبيعه فيأكلَ خيرٌ له من أن يسألَ الناس، ولأن يأخذ تراباً يجعله في فيه خير له من أن يجعل في فيه ما حَرَّم الله عليه)([2]).

حدثني أحد الأخوة: (أنَّ صديقاً له قال: منذ تمَّ تعييني – في دائرة ما- تمكنتُ من سرقة (500) دفتر([3])...).

أقول: حينما تشيعُ فاحشة ما في بلد ويعتادها الناس، يسقط حاجز الحياء منها، وقد يفتخرون بقبائحهم فيها وكأنها لون من ألوان الشجاعة والرجولة والفهم الذي لا يستطيعه كلُّ أحد، كالذي مَرَّ آنفاً، ونبينا e يقول: (ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال؟ أمِنْ حلال أم من حرام؟)([4]).

لم هذا التشديد في المال الحرام؟ الجواب!! قال كعبُ بنَ عجرة t قال لي رسول الله e: (يا كعب بنَ عجرة! إنه لا يدخل الجنة لحم ودم نبتا من سُحْت، النار أولى به...)([5]).

المال الحرام يحجب رحمة الله ويمنع إجابة الدعاء ويقسّي القلب، قال سهل التستري (رحمه الله): (مَنْ أكل الحرام عصت جوارحُه شاء أم أبي علم أو لم يعلم)([6]).

والمال الحرام لا بد أن يُرَدَّ نقداً أو نسيئة، قال أهل الحكمة: (أفقر الناس أكثرهم كسباً للحرام لأنه استدان بالظلم ما لا بد من رده)([7]).

قال الوزير ابن الفرات: (تأملتُ ما صار إلى السلطان من مالي فوجدته عشرة الاف دينار، وحسبت ما أخذته من الحسين بن عبدالله الجوهري فكان مثلَ ذلك)([8]).

عن أبي رافع t قال: (كان رسول الله e إذا صلى العصر ذهب إلى بني عبد الاشهل فيتحدث عندهم حتى ينحَدِرَ([9]) للمغرب.. فبينما النبي e يسرع إلى المغرب مررنا بالبقيع فقال: أفٍّ لك، أفٍّ لك، فكبُر ذلك في ذرعي فاستأخرتُ وظننتُ أنه يريدني، فقال: ما لك؟ أمش، فقلتُ: أحدثتُ حدثاً؟ قال: ما ذاك؟ قلتُ: أففتَ مني،

قال: لا ولكنْ هذا بعثته ساعياً على بني فلان فغلَّ نمِرَة([10]) فادَّرَع الآن مثلها)([11]). لِمَا تقدم فقد حرص أهل الورع على الاحتياط فيما يأكلون ويتركون، صاحب الرسالة e قدوة الجميع.

عن أبي الجوزاء (رحمه الله): (قلت للحسن بن علي (رضي الله عنهما) ما تذكر من رسول الله e؟ قال: أذكر أني أخذتُ تمرة من تمر الصدقة فجعلتها في فِيَّ([12])، فنزعها رسول الله e بلعابها، فجعلها في التمر، فقيل: يا رسول الله! ما كان عليك من هذه التمرة لهذا الصبي؟ قال: إنا آل محمد لا تحِل لنا الصدقة)([13]).

قلتُ: رحم الله الشيخ أمجد الزهاوي، فقد قصده رجلٌ ليكتب له توصية – وكان الشيخ في المحكمة- فأخرج من جيبه فلساً وقال للرجل: اشتر لي بهذا ورقة، فقال الرجل: يا شيخ هذه أوراق امامك فردَّ الشيخ ابني! هذا مال الدولة!!).

 هذا وان خير الكلام كلام رب العالمين: (( ... قل متاع الدنيا قليل والاخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ))([14]).

 

الخطبة الثانية

عن أم عبدالله شدادِ بن أوس (رضي الله عنهما): (أنها بَعَثت إلى النبي e بقدح لبن عند فِطره، وذلك في طول النهار وشدة الحر، فردَّ إليها رسولها، أنى لك هذا اللبن؟ فقالتْ: لبنٌ من شاةٍ لي، فردَّ إليها رسولها، أني لكِ هذه الشاة؟ قالتْ: اشتريتها من مالي، فشرب، فلما كان من الغدِ أتتْ أم عبدِ الله رسولَ الله e فقالتْ: يا رسول الله! بعثتُ إليك بذلك اللبن مَرْثيّة([15]) لك من طول النهار وشدة الحر فردَدْتَ إليَّ فيه الرسولَ، فقال رسول الله e: أمِرَتْ الرسلُ قبلي ألا تأكلّ إلا طيباً ولا تعملَ إلا صالحاً)([16]).



[1] البقرة: ١٦٨.
[2] مسند الإمام أحمد، 12/7490.
[3] الدفتر: عشرة الاف دولار – كما هو معلوم- .
[4] صحيح الجامع، 5344 . البخاري . أحمد.
[5] صحيح الترغيب والترهيب، 2/1729.
[6] درر الأقوال، محمد خير، ص25.
[7] سراج الملوك، الطرطوشي، ص286.
[8] الإدارة الإسلامية، محمد كرد علي، ص168.
[9] أي: يسرع قليلاً كمن يمشي في طريق مائلة.
[10] شملة من صوف.
[11] صحيح ابن ماجة، 1/831.
[12] أي: في فمي.
[13] صحيح الجامع الصغير، 1/2280.
[14] النساء: ٧٧ .
[15] أي: رقة ورحمة (كونه صائم).
[16] السلسلة الصحيحة، 1136 . مسند الإمام أحمد.